الأقباط متحدون - سيد حجاب... مُتْ ما شاء لك الموت!
  • ٢٠:٣٩
  • الاثنين , ٣٠ يناير ٢٠١٧
English version

سيد حجاب... مُتْ ما شاء لك الموت!

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٠٠: ١٢ ص +02:00 EET

الاثنين ٣٠ يناير ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

غمسَ ريشتَه فى محابِرنا ليؤرخ بها يومياتنا فى أفراحنا وأحزاننا. فى دُوىّ أرواحنا، كانت ريشتُه تسرق من مداد ضحكنا العزيز وسُهدنا الغزير لتكتب أغانى نهاراتنا وأشجان ليالينا. وفى دُويّ واقعنا كانت ريشتُه تجول فى دروب مشاكلنا تتأمل، لتكتب مع الرفاق دستور بلادنا وترسم خُطا مستقبلنا. له ريشةٌ فى محبرة عشقنا، وريشةٌ فى محبرة فقدنا ووحدتنا. له ريشةٌ فى محبرة فرحنا، وريشةٌ فى محبرة حَزَننا. له فى محبرة ميلادنا ريشةٌ، وحين نموت تقطرُ ريشته مدادها مع دموع الثاكلين.

فكيف سيكون العالمُ وقد صمت هذا الصوت الذى غرّدت العصافيرُ على حروف كلماته أوجاعَ المصريين وأحلامهم؟! كيف سيكون طعم الحياة دون مذاق أغنياته، ودون بسمته المشرقة بالحكايا والنغم؟!

على مقاعد الدرس، قرأنا فى طفولتنا رواية «الأيام» التى كتبها طه حسين بدمِه ودموعه غازلاً على سطورها عذاباته واغترابه بين بشر واسعى العيون شاخصى المُقَل؛ لكنهم لا يُبصرون. بين حروفها، راح الكفيفُ المُبصِرُ يُغلق أبواب طفولته وصباه وشبابه: بابًا فى إثر بابٍ فى إثر باب. تجرّعنا الوجعَ والقنوط مع كل صفحة من صفحات الرواية. لمست أصابعنا مع الطفل الضرير تضاريس السياج العُشبيّ الموحِش، وخِفنا مع الصبىّ الخائف من عواء الذئاب فى القرية الساكنة، حين ظننا مثله أنها صراخ العفاريت كما يقول الكبار. لم تنقشع غماماتُ اليأس وتنفتح أبواب الرجاء واسعةً إلا حين سمعنا الحكاية صادحةً بصوت «على الحجار» على كلمات مايسترو الأغنية الاستثنائيّ عم «سيد حجاب». لاح أمام عيوننا شعاعُ الأمل فى غدٍ أبهى حين تلألأت كلمات تقول: «من عتمة الليل النهار راجع/ ومهما طال الليل بييجى نهار/ مهما تكون فيه عتمة ومواجع/ العتمة سور ييجى النهار تنهار/ وضهرنا ينقام/ أيام أيام أيام...».

كيف تكوّنت تلك الموهبة الفريدة: «سيد حجاب»؟ تكوّنت على صوت هدير الماء وتلاطم الموج ورائحة اليود الشهية، وزرقة البحر وبياض الزبَد.

على ضفاف بحيرة المنزلة، كان والد الطفل «سيد حجاب» يجالس الصيادين فى أمسيات الشتاء القارسة يتدفأون على لهيب الأخشاب ويُلقون الشعر. ومثلما كان كلُّ صيّاد يُلقى شِباكه فى بحر النهار ليلتقط رزقه المقدور، كان كلُّ صياد إذا جنّ المساءُ يُلقى قصيدته تحت عتمة الليل ليلتقط الرفاقُ من رزقه الروحى. ثم يحتكمون أيُّهم يفوق الجميع فى تأليف القصيد وقراءته. وكان الطفلُ النابه يُنصِتُ فى صمت، ويُدوّن فى كراسته ما يجود به الصيادون من نزيف أرواحهم أغانى وقصائدَ. فإذا عاد إلى بيته واختلى بنفسه فى مأمن من عيون الناس، أخرج شَبَكته/ كراسته، وألقى ما بها من رزق وفير، يحاول أن يُحاكى ما استمع إليه فى الصباح. يكتب قصائده الصغيرة، ويُخفيها عن عيون الرقباء. حتى جاء يوم وقرّر أن يُطلع أباه على قصيدة كتبها عن شهيد غدرته غدّارةُ الغدر. فأعجب أبوه بما كتب صغيرُه وشجّعه على المضى فى دنيا القصيدة. ومن يومها راح يسطر مشاعر أبناء قريته وأحلامهم وأحزانهم فى أغنيات عذبة، حتى صار مع الأيام هذا الهرم الشعرى الأكبر: سيد حجاب.

مات سيد حجاب، ولم يمت، ولن يموت. مات الذى قال: «تحت نفس الشمس فوق نفس التراب/ كلنا بنجرى ورا نفس السراب/ كلنا من أم واحدة/ أبّ واحد/ دم واحد/ بس حاسين باغتراب/ من حنان الحب هلّ الغلّ جانا/ من مرارة الغل جلجل صوت رجانا/ نبكى من الغل اللى بيعكر حياتنا/ واللا من الحب اللى هدهدنا وشجانا/ يا زمان الغربه ليلك بيحاصرنا/ وفى ظلامه المر طوانا وعصرنا/ بس طول ما الحب بيرفرف علينا/ الجدور هنمدها ونصنع مصيرنا/ كلنا من أم واحدة/ أب واحد/ دم واحد/ بس حاسين باغتراب».

يا عمّ سيد حجاب، مُت ما شاء لك الموت، واسترحْ بعد عناء. لكنْ، اتركْ لنا ابتسامتك وإشراقها فنحن نحتاج إليها، مثلما ستترك لنا طوعًا كلماتك فى دستورنا، وأغنياتك على أحبال حناجرنا.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع