بالأمس تعلمت شيئًا: مبروك عليكم السما
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الخميس ٢٦ يناير ٢٠١٧
هل تشعرُ، مثلي، أن كلَّ معاجم الدنيا فجأة قد صارت شاغرةً من المعنى وعاجزةً عن صوغ عبارة تناسب حجم الوجع؟ هل تكتفي، مثلي، بأن تُطرق رأسك للأسفل، وتصمت، ثم تقبض على نفسك متلبّسًا بالشعور بالخجل، كلما رفعت عينيك بين الحين والحين لترمق تلك العيون الحزينة؟ هل وجدت نفسك تقول، صمتًا، لهذا الفاقد أو تلك: «لماذا لم أكن أنا بدلا من شهيدك أو شهيدتك؟»
بماذا تشعر حين يسقط شهيدٌ أو شهداءُ، مع كل شمس تشرق في سماء مصر؟ تخِزُ قلبَك شوكةٌ من ألم؟! أشعرُ بما تشعرُ به ونشعر به جميعًا. آلاف الوخزات ضربت قلوبنا بعدد شهداء مصر الأحرار منذ ست سنوات. وبماذا تشعر حين تشخصُ بعينيك في عيني أحد أقارب شهيد، على شاشة أو على صفحة جريدة؟ نصلٌ باردٌ من الأسى يمرُّ ببطء فوق نحرك؟ يحدث معي كما معنا جميعًا، وفوق نحورنا مرّت نصالٌ على نصال ونحن نتجرّع الوجع مع الفاقدين أبناءهم أو آباءهم أو أزواجهن أو زوجاتهم. وماذا بوسعك أن تفعل حين يحدث وتلتقي، وجهًا لوجه، وجسدًا لجسد، أحدهم: طفلا صار يتيمًا لأن أباه الشرطيَّ قد تلقّى عنك رصاصة في صدره وهو يدافع عنك وعنّي، وقد كان حتى الأمس طفلا يضحك، أو ثكلى لن يجفُّ دمعُها لأن وحيدتها تمزقّت أوصالُها في تفجير كنيسة، أو سيدة لن تغادر فستان الحداد لأن زوجها الجندي روى نبتةً صحراوية بدمائه في رمال سيناء؟ هل تبحث عن كلمات مواساة فلا تجدها وترتبكُ الحروف فوق لسانك، كما يحدث معي كلما عجزتُ عن تقديم واجب العزاء لأسرة شهيد أو شهيدة؟
ماذا تفعل حين تجد تلك الثكلى تقول: «ليت كان لي ولدان بدلا من واحد لأقدّمه لمصر أيضًا مع شقيقه، لكنه ابني الوحيد!”؟» وبماذا تشعر حين يقول لك أبٌ فقد ابنته في البطرسية: «لماذا تعزينني؟! باركي لي يا عزيزتي، فهي شفيعتي أمام الله الآن!؟» أولئك بشرٌ يعرفون كيف يُفسدون على الإرهابيين فرحتهم بالفوز «الوهمي» علينا وعلى الوطن. فرحُ أولئك الرائعين باستشهاد أبنائهم فداءً لمصر، يصفع الإرهابيين على وجوههم صفعة مدوّية تقول للسفاحين: «ما قتلتمونا ولا قتلتم أبناءنا، إنما أنفسكم تقتلون».
بالأمس تعلّمت شيئًا جديدًا. على مدار الشهر الماضي، التقيتُ العديد من أهالي شهداء الكنيسة البطرسية، وهالني ما وجدت منهم من سكينة ورضا. سلامٌ عجيب تتمنى أن يُدثّرك كما دثّرهم. ابتسامةُ اطمئنان تُربك حساباتك وتُعقِّد أكثر مُهمة المواساة التي جئتَ من أجلها، وتُفقدك حتى الكلمات القليلة التي أعددتها سلفًا لعزاء الثكالى والأيتام والأرامل، فلا تجد غير الصمت عونًا لك على محنتك.
في ذكرى الأربعين لشهداء الكنيسة البطرسية، حضرنا بالأمس حفل تأبينهم في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. كان الجميع يغمرهم السلام والهدوء بدءًا بالأساقفة: الأنبا موسى أسقف الشباب، والأنبا أرميا وغيرهما من رجال الدين المسيحي، مرورًا بأقارب الشهداء، وانتهاءً بالأطفال الذين صاروا يتامى قبل أن تستوي براعمُهم على أعوادها. جميعهم يدركون أن مصابنا واحدٌ وهو ذاتُه مصابُ مصر المحزونة بيد الإرهاب الذميم. كانوا يعزّوننا قبل أن نُعزيهم. يؤمنون أن مَن قُدّم قربانًا لمصر، لم يضع هدرًا، بل هو بين كفّي الله الطيبتين، فلا يُحزن عليهم، إنما يُفرَح من أجلهم. لم أتمالك دموعي فبكيتُ يغمرني شعور بالخجل، فما كان من «نهلة» أمّ الشهيتدين مارينا وفبرونيا، إلا أن عانقتني وكأنما هي التي تواسيني وتُعزّيني وتُصبّرني. كان الأطفالُ فوق خشبة المسرح بالمركز الثقافي بالكاتدرائية يرنّمون قائلين: “مبروك عليكم السما/ والفرحة بالأكاليل.”
فالتقطتُ منهم العبارة الجميلة وحفظتها في قلبي لتكون هي كلمة العزاء الرسمية التي سأقولها لكل قريب من أقارب الشهداء في مقبل الأيام، بدلا من صمت الارتباك الذي يضربني أمامهم. ذاك هو الدرس القيّم الذي تعلمته بالأمس من إخوتي المسيحيين: «مبروك عليهم السما». وطوبى للحزانى فأنهم يتعزّون. طوبى لك يا مصرُ بشهدائك الطيبين.
نقلا عن المصري اليوم