طرائف عماد حمدي مع شقيقه التوأم ومشروعهما الأول
فن | إيلاف
الاربعاء ٢٥ يناير ٢٠١٧
القاهرة: تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان الراحل عماد حمدي الذي لُقب بفتى الشاشة الأول لأكثر من 20 سنة، من خلال عرض مذكراته التي صدرت بتوقيع الناقدة إيريس نظمي قبل أكثر من 3 عقود، علماً أن الفنان الراحل سجلها قبل وفاته. وفي الجزء الثاني نرصد رحلته في كلية التجارة وبدايته في التمثيل بالإضافة إلى علاقته بشقيقه التوأم عبد الرحمن، ولقائهما مع طلعت باشا حرب ومشروعهما الأول.
مواقف طريفة ويتابع "حمدي" سرد قصة حياته قائلاً: "في مدرسة التجارة العليا أيضا ظللت أنا وأخي عبدالرحمن محوراً لحديث الناس ودهشتهم، فنحن مازلنا ملتزمين بالقاعدة القديمة أن ننجح ونرسب معاً، وهذا بالطبع يحدث دون أي اتفاق مسبق لكنها الصدفة العجيبة التي لا تتكرر كثيراً كانت تتكرر معنا! كانت هناك مجموعتنا الأولى إسمها مجموعة الإقتصادية وتضم ثلاثة علوم، أما المجموعة الآخرى فهي مجموعة المكتبات وتضم ثلاث علوم آخرى، والذي يرسب في هاتين المجموعتين من المستحيل أن يحصل علي مجموع، لكن الذي حدث أننا رسبنا في المجموعتين وأكملنا أيضاً امتحان الملحق ثم نجحنا معاً أيضاً. وكان ذلك شيئاً غريباً ومثيراً للدهشة برأي الذين يعرفوننا، ولقد أوقعنا التشابه الدقيق في ملامحنا بمشاكل لا تعد ولا تحصى، فإذا مثلاً حدث أن اخطأ اخي عبد الرحمن وأراد أبي أن يعاقبه وتصادف ظهوري في تلك اللحظة أمام أبي، فإنه على الفور يضربني بدلاً منه وأنال أنا العقاب الذي كان يجب ًأن يناله أخي. فحتى أبي كان في أحيانٍ كثيرة غير قادر علي التمييز بيننا بسهولة، وما أكثر المفارقات المضحكة التي كانت تحدث نتيجة لذلك التشابه الشديد بيني وبين أخي عبد الرحمن.
مدرس الإنجليزية وحدث مثلا في إحدى المرات أن تقدمنا لامتحان شفوي في اللغة الإنجليزية، وكان المدرس الذي يشرف على الامتحان شهيراً بقسوته وغلاظته. فذكر اسمه كان يملأ قلوبنا رعباً، ولقد كان سبباً في حرمان الكثير من الطلاب من الحصول على البكالوريس بسبب شدته وقسوته.
المهم في هذه الحادثة أن أخي عبد الرحمن دخل قبلي لكى يؤدي الامتحان وليسبقني في مواجهة هذا الشرس، وبعد أن انتهى من أداء الامتحان خرج ثم دخلت أنا بعده بحوالي ربع ساعة وانزعجت جداً عندما وجدت المدرس الانجليزي القاسي القلب يركز نظراته على وجهي وهو يتفحصني باهتمام، ثم بادرني قائلا: أين رأيتك قبل الآن؟ فقلت بأدب: لأ أظن أني قابلت حضرتك من قبل. فعاد وسأل: ألم أمتحنك سابقاً؟ قلت بإصرار: لا أظن ذلك! ووجدت الشك والحيرة في عينيه الزرقاوين وأعطاني الكتاب بغيظٍ واضح وقال: إقرأ.
وبدأت القراءة من الكتاب، لكني اضطررت للتوقف عندما صاح بي فجأة: Stop. فتملكني الخوف، وقلت لنفسي:اللهم أجعل هذا اليوم على خير لقد سمعت الكثير من الحكايات المرعبة عن هذا المدرس بالذات، فهل سأكون أنا أحد ضحاياه؟ وتطلع المدرس صاحب الوجه الأحمر نحوي قائلاً بغضبٍ زائد: لا، لقد امتحنتك من قبل، وعدت الآن لكي تؤدي الإمتحان بدلاً من شخصٍ آخر. وحاولت أن أشرح له الأمر، فعاد يصيح: تريد أن تخدعني، أليس كذلك؟ وقلت لنفسي لقد وقع المحظور ولن أفلت من عقاب هذا المدرس القاسى القلب فأجبته في محاولة للدفاع عن النفس، إن لي أخا شقيقا يشبهني تماماً.
لكنه ظنني أسخر منه أو أضحك عليه، فقال ساخرا: توأم؟ فقلت بنفسي ستكون كارثة إن لم أعثر على أخي، وخفت أن يكون قد خرج من لجنة الإمتحان واتجه فوراً إلى البيت. وجريت كالمجنون أبحث عنه، وكدت أقفز فرحاً عندما وجدته واقفاً بالقرب من الغرفة التي كان يجري فيها الإمتحان، وجذبته بسرعة وأدخلته معي وهو لا يفهم ما يحدث، بل وجد نفسه يقف مرةً آخرى أمام مدرس الإنجليزية الذي نظر إلينا مشدوداً، وقلت وأنا ألتقط أنفاسي:هذا هوشقيقي التوأم. فقال وهو يبتلع غيظه: Ok. فحمدت الله أن هذا الموقف مرّ دون أن يصدر قراراً بفصلي أو حرمانى من إكمال الإمتحان.
وحدث مرةً آخرى أن طلبوا مني صورةً لوضعها داخل "الكارنيه" الذي يثبت أني طالب، ولم أجد صورة خاصة بي. فأخذت صورة أخي، لأنها لا تختلف أبداً عن صورتي. فالتشابه بيننا شديد لدرجة أن لا أحد يستطيع التمييز بين صورتي وصورته، وهذا ما حدث فعلاً، ومرّ الموقف بسلام دون أن يعلم أن أحد أن الصورة التي وُضِعت ليست صورتي، بل هي صورة أخي.
عشق المسرح
ويكمل "حمدي" نسيت أن اقول أنني واصلت إشباع هواياتي الفنية في مدرسة التجارة العليا من خلال الفرقة المسرحية التي كانت فى ذلك الوقت من أقوى فرق الهواة، ويبدو أن الكلمات الطيبة المشجعة التي كنت أسمعها دائما من الآخرين الذين شاهدوني أثناء أدائي للأدوار التمثيلية، هي التي جعلتني أفكر جديا في العمل مع أحد الفرق المسرحية الكبيرة، فبدأت البحث عن فرقة أنضم إليها رغم علمي أنني ما زلت هاوياً مغموراً.
لقد كانت أهم الفرق المسرحية في ذلك الوقت "رمسيس، جورج أبيض، علي الكسار، فاطمة رشدي، وفرقة منيرة المهدي". لكني لم أكن أجرؤ إطلاقا على طلب الإنضمام إلى إحدى هذه الفرق، لأنني كنت أسأل نفسي: من أكون أنا إلى جانب هؤلاء العمالقة؟! فلم أجد أمامي سوى فرقة "أنصار التمثيل والسينما" التي كان يُشرف عليها الفنانان الكبيران سليمان نجيب وعبد الوارث عسر. فوجدت فيها النافذة التي سأتنفس وسأستنشق من خلالها عبير الفن المسرحي، لكونها تفتح قلبها لهواة التمثيل من أمثالي، أما السبب الثاني الذي شجعني فهو وجود الاستاذ عبد الوارث عسر الذي كان اول من علمني الإلقاء المسرحي.
المشروع الأول
لكن أهم حدث في تلك الفترة كان انتهائي أنا واخي عبدالرحمن من دراستنا في مدرسة التجارة العليا، وحصولنا علي شهادة البكالوريس، لقد انتهت مرحلة الدراسة بكل أحلامها وذكرياتها السعيدة والمريرة، وأصبحنا نقف على أبواب مرحلة جديدة مختلفة تماماً. وكان لا بد أن نبحث عن إجابة لذلك السؤال الذي يواجه كل الذين ينتهون من دراستهم: ماذا سنفعل الآن؟ فقال أخي عبد الرحمن: لا أحب العمل الوظيفي. فقلت: وأنا أيضاً.
وبعد تفكيرٍ طويل، قلنا أن المشروع التجاري أفضل من الوظيفة التقليدية. لكن، من أين سنأتي برأس المال؟ لقد استنفذ أبي كل جهده وطاقته في تعليمنا ومساعدتنا على إكمال دراستنا العليا، لقد أدى دوره الأبوى العظيم نحونا على خير وأكمل وجه، وليس معقولاً أن نطالبه الآن وبعد التخرج بمثل هذه المساعدات المادية التي تفوق إمكانياتنا الأسرية.
كنا قد قررنا أن نفتح مكتب يتولى نشر الإعلانات في الصحف، فمثل هذه المكاتب الإعلانية كانت محدودة جداً، ويشرف عليها أساسا بعض اليهود. واعتبرنا أنه مجال جديد أمامنا، ولكننا واجهنا مشكلة بالتمويل. وبعد البحث عن سبل المساعدة، خطر على بالنا أخيراً طلعت باشا حرب. فقد كان "بنك مصر" قد أُنشئ فى ذلك الوقت بشركاته المتعددة برعاية وتشجيع طلعت باشا حرب، وكان اتجاه قوي لتشجيع الشبان الذين أنهوا دراستهم العليا علي العمل في المشاريع الجديدة المفيدة، ومساعدتهم على شق طريقهم في الحياة. ونحن أنهينا دراستنا، ونريد أن نشق طريقنا، يدفعنا الأمل ويحركنا الطموح والرغبة القوية في اقتحام المجهول والإنطلاق نحو المستقبل المشرق. فنظرت بعيني أخي، وقلت بتصميم: غدا، سأذهب لمقابلة طلعت باشا حرب.
اللقاء الموعود
لم أكن أتصور أن لقائي مع طلعت حرب باشا سيتم بهذه السرعة وبكل هذه السهولة ووجدتني جالساً أمامه، بينما هو يرمقني باهتمام عطوف، وقلت له: يا باشا نحن من خريجي مدرسة التجارة العليا ونريد أن نفتح مكتباً للاعلان الصحفي، لكن المشكلة أن امكانياتنا المالية محدودة، ولهذا جئت أطلب المساعدة من سعادتك. ولم أكد أنتهي من كلامي حتى كان طلعت حرب باشا قد أمر بمنحنا كل الإعلانات الخاصة بشركات بنك مصر، بضعة ألوف من الجنيهات، كانت رأس المال الذي قررنا أن نبدأ به لمشروعنا الجديد، فالحقيقة أننا لم نكن نمتلك مليما واحداً عندما قررنا البدء في تنفيذ هذا المشروع. فالحصول على أدوات الرسم وبقية تجهيزات المكتب كانت مشكلة كبيرة تواجهنا، لأننا لم نكن قادرين أبدا على شراء هذه الأدوات والتجيهزات، لدرجة أنني فكرت في الإستعانة بأدوات الرسم الموجودة في غرفة أبي المغلقة منذ فترة طويلة.
فقد كان مهندساً في السكة الحديد، ولم يعد يستعمل هذه الأدوات بعد أن بلغ سن المعاش. فسألت نفسي لماذا لا أستعين بهذه الأدوات التي تزدحم بها غرفته المغلقة؟ ولكنى لم أجرؤ على طلب ذلك مباشرةً منه.
خجلت أن أعلن له عن رغبتي في استخدام نفس الأدوات التي كان يستعملها. وذهبت إلى عمي طالبا مساعدته، قلت له: أنت تعرف يا عمي أن أبي لم يعد يستعمل هذه الأدوات التي نحن في أشد الحاجة إليها في مشروعنا الجديد لكن أخجل أن أطلبها منه. وساعدني عمي في الحصول على أدوات الرسم- ليس عن طريق إقناع أبي، بل عن طريق كسر باب الغرفة المغلقة، دون أن يعلم أبي طبعا بما حدث.
وحملت أدوات الرسم التي كان يستعملها وأخذتها إلى المكتب الذي افتتحناه لشركتنا الوليدة في شارع شريف بالتعاون مع زميلين لنا. وكانت منحة إعلانات شركات "بنك مصر" التي أمر طلعت حرب باشا بتقديمها لنا الدافع القوي الذي جعلنا نخطو الخطوة الأولى الواسعة في مجال الحياة العلمية. واستطاع مكتب الإعلان الصحفي الجديد في شارع "شريف" أن يفرض وجوده بسرعة. ولكن كان لا بد لنا أن نخطو خطوات أخرى أوسع على طريق النجاج، ولذلك قررنا أن نطور نشاطنا بدخول مرحلة تنفيذ إعلانات ولافتات الشوارع بعد نجاحنا في تنفيذ إعلانات الصحف.
لكننا فوجئنا باستدعاء عاجل من طلعت حرب باشا. فذهبت للقائه وأنا أحاول أن أسبق الأحداث واضعاً في ذهني كل الإحتمالات. فلم أتوقع أن أسمع نبأ سيئاً.
لأن هذا الرجل ساعدنا، ولولاه ما كنا حققنا هذا النجاح. بل هو أيضاً الذي ساعد عشرات الشبان الآخرين الذين أنهوا دراساتهم العليا. وأرادوا أن يشقوا طريقهم في الحياة. هو الذي فتح أمامنا أبواب الأمل ويسر لنا إمكانيات العمل.
ووجدت نفسي جالساً أمامه. لكنني فوجئِت به يسألني: ما رأيك لو نضم هذه " شركة الاعلان" إلى شركات "بنك مصر"؟ وقبل أن استوعب كلماته، أكمل: سأعينك مديراً لهذه الشركة. لكني اعتذرت بصورة مهذبة، وانصرفت ولم أدرك وقتها أن قراري هذا كان متسرعاً وصدر بغير تفكيرٍ عميق.
فقد استطاع "حرب" أن يقنع زميلينا وشريكينا الآخرين اللذين عملا بالفعل في شركات بنك مصر، وأصبحت أنا وأخي عبد الرحمن داخل مكتب شارع شريف. وكان من الصعب علينا أن نستمر وحدنا. وكان لابد أيضا أن نعلن إفلاسنا وإغلاق مكتبنا بمنتهى الروح الرياضية. وعدنا لنفس السؤال القديم: ما الذي سنفعله الآن؟ ولم يكن أمامنا سوى البحث عن وظيفتين جديدتين. فعمل أخي في الجمعية الزراعية الملكية، أما أنا فقد عملت في مستشفى أبو الريش.