الأقباط متحدون - «أميرة الشهيدات»
  • ٠٨:٢٧
  • الاثنين , ٢٣ يناير ٢٠١٧
English version

«أميرة الشهيدات»

مقالات مختارة | الأنبا إرميا

٠٥: ٠٨ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٣ يناير ٢٠١٧

الأنبا إرميا
الأنبا إرميا

يُحتفل غدًا بذكرى الأربعين لشهداء «الكنيسة البطرسية»، وقد يتعجب بعض من استخدامى لكلمة «احتفال»، إذ من المعروف أنها تطلق على الأحداث السارة التى يريد البشر تخليدها على صفحات الذكريات أثناء حياتهم، لكن كل ما يرتبط بالشهداء هو احتفال بأشخاص نالوا كرامة عظيمة، وانتقلوا إلى حياة أعظم من تلك التى عاشوها على الأرض، والذكريات التى تربطنا بهم هى علامات فارقة فى حياة البشرية، إذ هى ترسم نماذج لبشر عاشوا كالملائكة على الأرض فاستحقوا أن ينالوا تكريم السماء لهم.

و«الشهيد» هو الشخص الذى يشهد بأقواله فى أمر ما، أو يشهد بأعماله وبسلوكه عن إيمانه، ثم أصبحت الكلمة تُطلق على من يقدم حياته من أجل الواجب أو الخير، أو من أجل الله. وتطلق كلمة «شهيد» أو «شهيدة» فى المَسيحية على ذلك الذى احتمل الشدائد من أجل الإيمان سواء قُتل أو لم يُقتل، وأخيرًا أصبحت تُطلق على الذى قبِِل أن يقدِّم حياته من أجل إيمانه.

ويحمل التاريخ المِصرى صفحات كثيرة كُتبت بدماء الشهداء المِصريِّين الذين أذهلوا العالم بشجاعتهم الفائقة صغارًا أو كبارًا، فقد كان العالم يقف مشدوهًا أمام إقبالهم على الموت بهدوء واحتمال وصبر، دون خوف أو ارتعاب، بل بسعادة غامرة وقلب يصفح عمن قتله: يقول أحد الآباء: «... كان القديس استفانوس (أول الشهداء) يُرجم، وإذ كانوا يقذفونه بالحجارة، صلى لأجلهم، أريد أن تكونوا مثله». لقد كان الموت لديهم هو انطلاق نحو السماء التى منها يستمدون شجاعتهم، يقول الشهيد «كِبريانوس» فى إحدى رسائله: «لقد كان المعذِّبون أعظم شجاعة من الذين يعذبونهم. إذ غلبت الأعضاء المضروبة والممزقة الآلات التى ضربتها ومزقتها!! لقد كانت الأسواط تُكرر الجلدات بكل ما فيها فى قوتها، لكنها لم تقدر أن تهزم الإيمان غير المنظور!».

واليوم نتحدث عن شهيدة مِصرية ذاع صيتها فى العالم بأسره هى الشهيدة «دميانة» التى تلقب بـ«أميرة الشهيدات»، وقد احتُفل بيوم استشهادها يوم ٢١/ ١ الموافق الثالث عشَر من طوبة.

«دميانة»
وُلدت مع أواخر القرن الثالث الميلادى من عائلة مَسيحية تقية ثرية حاكمة، فقد كان والدها «مَرقس» هو والى «البرلس» و«الزعفران» و«وادى السيسبان». وقد فرِح والداها كثيرًا بمولدها وأقاما المآدب للفقراء. ولم يمضِ عامها الأول حتى تُوفيت والدتها، لتعيش مع والدها الذى حرص على الاهتمام بها ورعايتها، فصارت مثالًا فى عصرها للجمال والغنى والفضيلة مع أنها كانت لم تتخطَّ الخامسة عشرة من عمرها بعد! حتى إن أحد الأمراء تقدم لطلب الزواج بها، لكنها رفضت، فأرجأ والدها أمر زواجها إلى حين. وفى تلك الأثناء، ارتبطت «دميانة» بالكنيسة وبقراءة «الكتاب المقدس» مع أصوام وصلوات كثيرة.

أولى الراهبات
فى سن الثامنة عشرة كشفت «دميانة» لوالدها عن رغبتها الشديدة فى أن تخصص حياتها لله، وطلبت إليه بناء قصر لها فى مِنطقة نائية بـ«الزعفران» ليكون مكان عبادتها هى ومن اجتمع حولها من الفتيات اللاتى كُنّ يرغَبن العيش فى حياة البتولية التى تمتلئ بالصلاة والصوم والعبادة لله، واللائى كُن أربعين عذراء. رحب والدها «مَرقس» بما اختارته ابنته، وبالفعل بنى لها قصرًا للتعبد فيه مع الفتيات الأربعين. وهكذا عاشت تلك الفتاة على الأرض حياة أشبه بالملائكة. لقد كانت «دميانة» أول من فكرت فى الرهبنة وتأسيس حياة تشبه حياة الدير، فكانت قائدة لأربعين عذراء فى الحياة وفى طريق الاستشهاد.

تجرِبة مؤلمة
كانت «مِصر» آنذاك ولاية رومانية تئن من وطأة الاحتلال الرومانى فى أيام حكم الإمبراطور «دِقْلِدْيانوس» الذى أثار اضطهادًا عارمًا على المَسيحيِّين فى جميع أنحاء الإمبراطورية. وكانت «مِصر» تُعتبر من أهم الولايات وأخصها لدى «الرومان»، فقد كانوا يهتمون باستتباب أمورها وخُضوعها لهم. وفى غمرة ذلك الاضطهاد العنيف، أرسل الإمبراطور لاستحضار الوالى «مَرقس» وأمَره أن يسجد للأوثان، ممارسًا عليه ضغطًا شديدًا، فضعف وبخر لها!! وما إن سمِعت ابنته ذلك الأمر حتى تركت مكان خُلوتها، متجهةً إلى قصر والدها للقائه، وهى تحمل مشاعر الحزن والألم الشديدين.

الابنة تعلم
التقت «دميانة» والدها وأخبرته بحزنها الشديد من أجل تبخيره للأصنام، معلنةً أنها كانت تود أن تسمع خبر استشهاده عن أن يصلها نبأ عبادته للأوثان وتركه عبادة الله الحى! وسألته ألا يخاف الموت الذى هو انتقال إلى حياة أبدية أعظم، بل جدير أن يخاف الله القادر على أن يُهلك الجسد والنفس معًا، وأن طاعته للإمبراطور أو أى إنسان لا تكون أبدًا على حساب إيمانه وأبديته. لقد كان «الشهداء» يحملون فى حياتهم شجاعة فى ملاقاة الموت الذى لم يكُن يُخيفهم فى شىء، متذكرين كلمات السيد المسيح: «... لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أُريكم ممن تخافون: خافوا من الذى بعدما يُقتل، له سلطان أن يُلقى فى جَهنم. نعم، أقول لكم: من هذا خافوا!». بدأ الوالى «مَرقس» فى التأثر بشجاعة ابنته وقوة إيمانها، وبكى بمرارة وبندم على ما ارتكبه، وتركها فى الحال متجهًا إلى أنطاكية للقاء الإمبراطور «دقلديانوس» معلنًا ندمه، الأمر الذى أثار تعجبه، وحاول كثيرًا استمالته مرة ثانية إلى الوثنية، فلما لم يتمكن من ذلك أمر بقطع رأسه. وإذ كان «دقلديانوس» يحب الوالى «مَرقس» ويحمل له الاعتزاز والتقدير، بدأ فى البحث عن سر تحوله فعلِم أن ابنته «دميانة» هى السبب فى ارتداده، فقرر إرسال جنوده يحملون آلات التعذيب انتقامًا منها.

السماء
مع إدراك «الشهداء» وإيمانهم العميق أن الحياة فى هذا العالم أمرها إلى زوال، وهى وقتية وقصيرة جدًّا مقابل الحياة بعد الموت، كانوا يعيشون حياتهم كغرباء يتوقون إلى العودة لوطنهم السمائى. لذلك كانوا يعيشون فى ذلك السلام الذى يهبه الله لهم حتى فى لحظات الألم والموت، فرحلوا يظللهم السلام الذى لا ولم يستطِع السيف أن ينزِعه منهم. شاهدت «دميانة» جُنود «دقلديانوس» يحيطون بالقصر ويُعدون آلات تعذيبهم، فجمعت رفيقاتها ليصلِّين ويتشددن فى ملاقاة الموت، وأعلنت أن فرصة الهرب متاحة من الباب الخلفى لمن تخاف منهن الموت، فلم تجد بينهن عذراء واحدة هابته!

حاول القائد المرسَل من قِبل الإمبراطور أن يدعو «دميانة» إلى السجود للآلهة، مقدمًا لها الوُعود بالأموال والمناصب والحياة الكريمة، لكنها رفضت بشدة. اغتاظ القائد وبدأ بسلسلة طويلة من العذابات، لكنها قدَّمت مشاهد رائعةً فى احتمالها الآلام والأتعاب حتى أبهرت الوُلاة والحكام من قدرتها الفائقة على الاحتمال بصبر، دون ضعف فى عزيمتها أو استنفاد لصبرها. كانت الأيام تشددها وتجذبها نحو السماء، أمّا معذبوها فقد تعِبوا أمام ذلك الصبر. وبعد عذابات شديدة، أمر القائد بقطع رأسها لتصير الأميرة التى نزلت عن كل ترف الحياة فصارت «أميرة الشهيدات» ومعها أربعون عذراء أخرى.

تكريمها
فى أيام «الإمبراطور قسطنطين»- الذى أعلن مرسوم التسامح الدينى فى المملكة الرومانية- سمِع بأمر الشهيدة «دميانة»، فاتفق مع أمه «الملكة هيلانة» أن تذهب إلى «الزعفران» لبناء كنيسة باسم الشهيدة «دميانة» هناك. وقد قيل عن الشهيدة «دميانة»: «سبقت القديسة دميانة عصرها كله وكانت لديها شجاعة وجرأة عجيبة».

وهكذا حين نذكر «الشهداء» ونتحدث عنهم، فإننا نحتفل بهم: بصبرهم وبمحبتهم، وبإيمانهم الذى لا يتزعزع و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع