كيف نحد من التطرف الدينى فى الفضائيات؟
مقالات مختارة | ياسر عبدالعزيز
الاثنين ٢٣ يناير ٢٠١٧
حسناً تفعل مكتبة الإسكندرية حين تواصل جهودها المدروسة لتفكيك الأساس الفكرى للإرهاب؛ فعلى مدى ثلاث سنوات لم تتوقف المكتبة عن عقد مؤتمر سنوى تحت عنوان «مكافحة التطرف». وخلال الأسبوع الماضى، اجتمع مئات من المثقفين والمتخصصين العرب فى أروقة المكتبة، ليناقشوا سبل مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، فى مؤتمر تم الإعداد له جيداً، تحت شعار: «العالم ينتفض: متحدون فى مواجهة التطرف».
لقد تناول المؤتمر جوانب مختلفة فى البنية الفكرية الحاضنة للإرهاب ومنطلقاتها المختلفة، كما خُصصت جلسة لمقاربة التعاطى الإعلامى مع تجليات تلك الظاهرة.
لا يمكن القول إن الإعلام بشكل عام، أو الفضائيات تحديداً، يمكن أن تخلق إرهاباً أو تؤججه بمعزل عن سياق سياسى واجتماعى واقتصادى وأمنى مُواتٍ، لكن المؤكد أن بعض الفضائيات تلعب أدواراً مهمة فى تغذية النزوع الإرهابى.
فى شهر أكتوبر من العام 2010، أصدرت شبكة «سى إن إن» بياناً نادراً من نوعه، قالت فيه إن مقدم البرامج الشهير «ريك سانشيز» لم يعد يعمل معها، بعدما أدلى بتصريحات فُهم منها أنه يجرح مشاعر المواطنين اليهود؛ وهو أمر استدعى الكثير من الانتقادات له وللمحطة، استناداً إلى أن حرية التعبير التى يكرسها التعديل الأول فى الدستور الأمريكى لا تعنى أبداً «تجريح الجماعات العرقية والدينية والطعن فى أخلاق أعضائها بسبب ما يعتقدونه».
قبل هذه الواقعة الشهيرة بثلاث سنوات، أعلنت شبكة «إم إس إن بى سى» الأمريكية الشهيرة قطع علاقتها مع الإذاعى البارز «دون إيموس»، كما أوقفت بث برنامجه اليومى «إيموس فى الصباح»، بسبب ما قالت إنه «تورطه فى تصريحات عنصرية ضد أتباع بعض الأديان».
يعد «التعديل الأول» الذى طرأ على الدستور الأمريكى مفهوماً مركزياً يؤطر الممارسة الإعلامية، وغيرها من الممارسات المتصلة بحرية الرأى والتعبير، فى الولايات المتحدة الأمريكية التى تقدم نفسها باعتبارها معقلاً لليبرالية والحرية بامتياز.
وينطوى هذا التعديل على فكرة حظر سَن أى قانون يحد من حرية الكلام، لكنه ينطوى أيضاً على فكرة عدم سن قوانين من شأنها الحض على ممارسة شعائر دين معين أو الامتناع عن ممارسة شعائر دين معين.
يعطى التعديل الأول الحرية بيد للأمريكيين، لكنه يمنعهم من سن القوانين التى تؤدى إلى تمجيد دين والحط من آخر باليد الأخرى.
لا يحدث هذا فى الجانب الغربى من المحيط الأطلسى فقط، لكنه يحدث بدرجة أكبر ربما فى الجانب الشرقى أيضاً.
فى شهر يوليو من العام 2004، قرر المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئى فى فرنسا تقديم طلب إلى «مجلس الدولة» لإيقاف بث قناة «المنار» على الأقمار الاصطناعية الأوروبية داخل البلاد؛ وهو الأمر الذى حدث بالفعل فى غضون العام نفسه، بعدما اتهمت سلطات الإعلام الفرنسية القناة بأنها «تبث محتوى عنصرياً ومحرضاً على الكراهية».
وبعيداً عن التقييم السياسى لما تقدمه قناة «المنار» من جهة، أو الموقف السياسى الفرنسى من قضية الشرق الأوسط وأطرافها من جهة أخرى؛ فإن ما يهمنا من هذه القصة تحديداً هو ما يتعلق بالنظام العام فى فرنسا؛ وقدرته على الدفاع عن حرية الرأى والتعبير وصيانتها، ثم التدخل بوسائل قانونية وتنظيمية لإيقاف ممارسات غير مقبولة من جانبه إذا استدعت الحاجة.
من بين 1320 قناة فضائية عربية، هناك 125 قناة دينية؛ إذ تحتل الفضائيات الدينية المرتبة الثالثة بين غيرها من التخصصات، وفق دراسة لاتحاد الإذاعات العربية صدرت مطلع العام 2014.
لكن الشكاوى تتزايد جراء أنماط الأداء التى تعتمدها بعض تلك القنوات الـ125، وخصوصاً تلك القنوات التى تتخذ طابعاً مذهبياً، وتنحو منحى طائفياً، وتستخدم لغة تحريضية، بدافع إثارة الكراهية وتمجيد العنف.
يعتقد البعض أن الدول الغربية المتقدمة تقصى الدين تماماً من الحياة الاجتماعية، وتجعله مقتصراً على بعض الممارسات والشعائر فى دور العبادة، وتحد من الحديث عنه أو تقيد حرية الدعوة إليه، وهو أمر غير صحيح بالطبع.
فكثير من الدول الغربية المتقدمة تشهد أنماطاً متباينة من التدين، والغالبية العظمى منها تتيح بث قنوات فضائية تقدم محتوى دينياً؛ باعتبار أن الدين ركيزة مهمة لدى شعوبها، وأن تقديم المحتوى الدينى والحق فى التعرض له أحد الحقوق الأساسية للمواطن والمقيم.
ولذلك، فإن تلك الدول تعرف عدداً من القنوات التى تقدم المحتوى الدينى فقط، كما تعرف قنوات أخرى تقدم محتوى منوعاً لكنها تخصص مساحة من بثها لتقديم برامج ومتابعات دينية.
وقد استطاع عدد من تلك الدول المتقدمة وضع أسس وقواعد إرشادية لتقديم المحتوى الدينى، بحيث تلبى حاجة الجمهور من الجرعات الإعلامية الدينية المطلوبة، وتحدد أسس الممارسة المهنية، وتحد من إمكانية وقوع الأخطاء فى هذا المجال الحساس فى الوقت نفسه.
وتتضمن تلك القواعد ضرورة ألا يتضمن المحتوى الدينى المقدم أى محاولة لـ«استقطاب» أتباع الأديان الأخرى، من خلال الإلحاح عليهم أو تقديم مزايا وإغراءات لهم.
ويتم إلزام تلك القنوات أيضاً بضرورة تفادى الحديث السلبى عن الأديان الأخرى، وعدم الطعن فى تلك الأديان، أو المساس بها أو بمعتنقيها. وإذا استدعت الضرورة ذكر تلك الأديان، أو «رسلها»، أو رموزها، أو أتباعها، ضمن معالجة إعلامية ما؛ فيجب ألا يتم هذا من خلال مقارنة تعزز موقف الديانة التى تروج لها القناة، فى مقابل الحط من شأن الآخرين، كما ينبغى أن يتم هذا بالقدر الواجب من الاحترام لأصحاب المعتقدات الأخرى.
وتلزم تلك الدول القنوات الدينية أيضاً بضرورة احترام الحقائق العلمية، وعدم تقديم معلومات أو أفكار «مشوهة» أو تم دحضها علمياً، أو «تروج أو تشجع على ممارسات يمكن أن تسبب الأذى للمستهدفين أو أى من أفراد الجمهور». كما تلزمها بتجنب «التمييز» بين أفراد الجمهور استناداً إلى هوياتهم الدينية أو ممارساتهم الشعائرية.
تحدث بالطبع انتهاكات عديدة لتلك المعايير من قبل عدد من القنوات الدينية؛ ولذلك فإن تلك الدول تنشئ أجهزة تتضمن آلية لتلقى الشكاوى فى حق أنماط الأداء المسيئة، وتحقق فيها، وتنزل العقوبات المالية الموجعة بحق مرتكبيها.
وفى أحيان أخرى تنتفض تلك القنوات الفضائية، أو تتدخل أجهزة تنظيم البث لإيقاف مذيعين أو برامج بعينها، بعدما يثبت التجاوز فى حق تلك القيم والمعايير، وبالشكل الذى يحافظ على وحدة المجتمع وسلامته، ويحد من فرص التطرف وإثارة النعرات العصبية والعرقية والطائفية، والتحريض على العنف وإشاعة الكراهية.
لا يمكن غض البصر عن الانحيازات المنهجية لدى منظومة الإعلام الغربية، خصوصاً فيما يتعلق بحماية أتباع الدين اليهودى، لكن معظم ممارسات الحماية تمتد لتشمل أتباع أديان أو طوائف أخرى.
تلك هى بالطبع الطريقة الناجعة التى يمكن أن يتم التعامل بها مع القنوات الدينية العربية التى يمثل وجودها ضرورة ملحة وحقاً أصيلاً للجمهور العربى المتدين، أما الدعاوى بإغلاق القنوات الدينية، أو منع الترخيص لها، أو الحد من حريتها، أو فرض قيود عليها، فلن تؤدى إلى حل تلك المشكلة.
نقلا عن الوطن