الـقـوة الناعـمة
د. رؤوف هندي
الخميس ١٢ يناير ٢٠١٧
بـقـلـم الدكـتـور رءوف هـنـدي
الـقوة كلمةٌ كثيرا ما تُـذكر عند متابعة الأحداث الجارية في العالم، من أقصاه إلى أقصاه. معاني كثيرة هي تلك التي تتوارد في الأذهان للقوة فـفي الفيزياء تعرف القوة على أنها مؤثر يؤثر على الأجسام فيسبب تغيراً في حالتها أو اتجاهها أو موضعها أو حركتها في حين أن الـقوة في معناها التقليدي تعني البطش والإرغام والقهر وإصدار الأوامر، أو القدرة على عمل الأشياء.وبتعـبير أدق فإن القوة هي القدرة على التأثـير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي يتوخاها المرء.
وعلى المستوى الدولي فيقترن معنى القوة بالقوة الصلبة ( الأسلحة، والمعدات العسكرية، والتكنولوجيا المرتبطة بها)، لكن حتى أعتى القوى التدميرية كالقنابل الذرية اليوم باتت غير ذات فائدة كبـيرة لأنها تـتسبب في دمار لاتـقدر الدول على تحمل تـبعاته، ولا تكلفة استخدامها للقنابل النووية، وبهذا فقد كان أحد الخبراء الدوليين دقيقاً عندما وصف القنبلة الذرية أنها "عضلات مربوطة" ولكن لايؤمن شرها أواستمرارسكونها.
واليوم مع التفجرالمعرفي الكبير الذي بات مبهراً في الكم الهائل من المعرفة التي أبدعها العقل البشري في شتى الميادين والمجالات الإنسانية والـتطبـيقـية فقد بات للقـوة معـنى آخر يـتمثـل في ما يـُطلق عليه القوة الناعمة (soft power).
تعريف القوة الناعمة:
القوة الناعمة هو مصطلح صاغه في التسعـينيات من القرن الماضي عـميد مدرسة كيندي للدراسات الحكومية بجامعة هارفرد، ورئيس مـجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع جوزيف س.ناي حيث يعرفها على أنها: القدرة على الحصول على ما يُراد عن طريق الجاذبية، بدلاً من الإرغام أوالقهر. فالقوة الناعمة تستخدم نوع مختلف من من العمل (وهي ليست قوة القسر ولا المال) لتوليد التعاون، وهي الانجذاب إلى القيم المشتركة، والعدالة، ووجود الإسهام في تحقيق تلك القيم والأهداف كما تعني القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة فكرية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكارومبادئ وقيم إنسانية .
ومن خلال دعمها للحريات والـثقافة والـفنـون والإبداع مما يـؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ومن ثم اتباع مصادره وروافده .
والأن ومع ثورة الإتصالات العلمية في مجال تكنولـجـيا المعـرفة والمعـلومات فـقـد انهـارت حواجزالأتصال والحصانة بين الدول والشعوب في كافة أرجاء المعمورة وهذا طارَ بنا وبدون ان نشعرإلى عصرجديد ألا وهو كوكبة الجنس البشريّ عالم تزول فيه الحدود وتبدو الأرض كوطن واحد والبشر سكانه وباتَ الإنسانُ كونـيّا أي مـوجود في أكثر من بلد يستـقي وينهل من حضارات ثـقافية مـتـنوعة ومتعددة وهذا جعل الإنسان قادرا على التفكير كونيا والتفعيل محليا وظهر بجلاء مصطلح القوة الناعمة لأول مرة كتعبير عن النفوذ حيث باتَ بمقدور الآداب والفنون والإبداع الفكري تغيّـرالعقل الجمعي للملايين من أبناء البشر.
ولااكون مبالغا حين أقول أن القوة الناعمة بما تملكه من نفوذ وتأثير أوجدت وخلقت حالة جديدة بين الدول وهو مايُعرف بالدبلوماسية الرشيقة ومن هنا نرى مصطلح القوة الناعمة باتَ يفرض نفسه عبر وسائل الإعلام والمنتديات الثقافية والفكرية وقد أكدتْ جميع الدراسات البحثية في هذا الشأن وهي تعتمد على استطلاعات رأي دقيقة أنه إذا كانت القوة الناعمة لبلد ما مـتمثلة في آدابه وفنونه وإبداعاته وعـقيدته الآيدولـوجية جذابة راقية تحترم التنوع والتعدد ولها القدرة على التعايش والتناغم مع حضارات العالم المتنوعة ، فإن الآخرين يحترمون توجهه بل يكون لديهم الرغبة أن يـتبعـونه باستـعداد أكبروعن طيب خاطر واقتناع .فالكثير من القوة الأمريكية الناعمة أنتجتها هوليود، وهارفرد، وبرمجيات المايكروسوفت، ومشاهير الرياضة. ومن مصادر القوة الناعمة أيضا لأي بلد فـنونها المحلية وموسـيقاها وتاريخهـا وآثـارها وهويـتها الحضارية ،
والتـقدم في مجال الحريات والعلامات التجارية الرائدة ، والجامعات العريقة، ومقدار ماحصلتْ عليه تلك الدول من جوائز نوبل، والمجهودات العلمية والبحثية التي تخدم أسرة العالم الإنساني والمسرح ، والسينما، بل والأطعـمة الشعـبية الشهـيرة تعد مصدرا من مصادر الـقوة الناعمة التي استطاعت وباقتدار ومع بـزوغ ثورة الإتـصالات العلمية والمعلوماتيـة أن تغيّر موازين القوى بمفهومها التبالي القديم حيث بات اليوم مختلفا عن ذي قبل على الأقل من الناحية المعرفـية، ودخل اليوم مفهوم القوة الناعمة كمصطلح في السياسات الدولية، وباتت القوة الناعمة مصدرا من مـصادر التغيير على المستوى المحلي والدولي، والجميل في الأمر أن القوى الناعمة لم تعد حكرا على الدول المتـقدمة، أوالـدول التي تمتلك الـقوة العسكرية الصلبة، بل خرج تأثـير القوة الناعمة عن سيطرة الحكومات لأنها ليست نتيجة عمل الحكومي بل هي في أكثرها ناتج عن متغيرات مفاهيم العصرالجديد وألياته العلمية الرهيبة ولاأكون مبالغا حين أقول أن القوة الناعمة بما تملكه من مفاهيم وخصائص إنسانية راقية ومتطورة قادرة على فعل السلام العام بين الشعوب.
وفي حالتنا المصرية يتردد كثيرا الآن مصطلح(تجديد الخطاب الديني) وتـنقـيته من شوائب كثيرة علقت به وهنا يحدث تصادم مؤلم بين رؤى واتجاهات عديدة ومتشعبة بين معارضٍ ومؤيد وليس لمقالي رغبة في الخوض فيها ولكني أقـول إن إحيياء القوة الناعمة المصرية بكل مصادرها وروافدها الحضارية والثقـافـية والـفنية والتي تمـتد جذورها عبر سبعة آلآف سنة ويزيد إذا خلصتْ النيّةوتوافرت إرادة سياسية حقيقية فهي قادرة على تغييرالعقل الجمعي الثقافي للمصريين الذين تعرضوا للأسف لأعتي رياح التخلف والخرافة والجهل ولم يكن هناك مصدات لتلك الرياح التي هبّت علينا في غـفلة من الزمن أهملنا فيها بقصد وغير قصد فعل وتأثيرأعظم قوة ناعمة حضارية مصرية نشأت على ضفاف النهرالخالد.إن إحيياء القوة الناعمة المصرية قادرة بلا شك على تغـييـر العقل الجمعي ومن ثـم قادرة على تغـييـر لغة الخطاب والفكر المجتمعي نحو الأرقى والحداثة ليكون مجتمعا متصالحا مع ذاته ومع الآخر ولديه القدرة على التناغم والتصالح والتعايش مع كل تـنـوع وتعـدد محلي وعالـمي فالقـوة الناعـمة وحدها قادرة على إزالة الـقُبـح الذي تراكـم فأفـسد المشاعر وقـتل الإبداع وخلق فكرالإرهاب. فياأيتها القوة الناعمة متشوقون للجمال الكامن فيكي متشوقون للإبداع في كل مستوياته وألوانه كافة.