بقلم: مينا ملاك عازر
مر حوالي 34 عام، منذ اندلاع ما أسماه الرئيس السادات رحمه الله انتفاضة الحرامية حتى وصلنا لاندلاع ما أسماه منظميه يوم الغضب، وفي خلال الأربعة وثلاثين عام حدثت أحداث كثيرة على المشهد السياسي المصري أدى لما شاهدناه وتابعناه اليوم، ليس فقط التغيير في الأحداث داخلياً وإنما أيضًا خارجيًا، واسمح لي عزيزي القارئ، أصحبك في رحلة سريعة بين الزمان والمكان.
    
منذ أربعة وثلاثين عامًا، خرجت المظاهرات لارتفاع الأسعار، وكان هدفهم منصب على منع تنفيذ قرارات رفع الدعم عن المواد التموينية، وما أن تم تنفيذ المطالب في استجابة تبدو سريعة من قبل الحكومة حتى انتهت المظاهرات، ولكنها أسفرت عن خسائر مادية، وبشرية، والكثير من المعتقلين الذين سطروا تاريخ جديد في حياة المصريين، وبالنظر إلى الأوضاع الخارجية حينها، كانت البلدان العربية كلها مستقرة، وكانت"مصر"قد خرجت لتوها من معركة منتصرة مع العدو الإسرائيلي، فكان الرئيس"السادات"له شعبية جارفة وثقة عالية بين المتظاهرين وبين الشعب عامةً، فكانت المظاهرات رغم حدتها لكنها كانت محددة المطالب وبعيدة عن النيل من النظام، والرئيس، ولم يكن أحد ممن خرجوا يدر بخلده الإطاحة بـ"السادات"، ولا يطمح في ذلك، ببساطة لأن سقف الطموحات كان محدود، وكان من المعروف أن من يقوم بالثورات هم الجيوش، خاصةً في مناطق العالم الثالث، والوطن العربي أكثر خصوصية، أما الأحزاب السياسية المصرية ممثلة بالذات في حزب التجمع  فقد اعتقل الكثير من كوادره أبزهم وأشهرهم الدكتور"رفعت السعيد" الذي كان من بين هؤلاء المتظاهرين.

أما الحال في هذه الأيام مختلف كل الاختلاف، فمصر مركزها الخارجي متدهور، والداخلي الحكومة مركزها في أدنى المستويات التي يمكن أن تصل لها حكومة في تاريخ مصر، فالكره الشعبي يزيد ويتزايد بشكل غير عادي، واختيار يوم الغضب في عيد الشرطة، يؤكد أن المصريين لم يعودوا  يحبون الشرطة، وبالتالي هذا يعني أن الشرطة والنظام والحكومة المصرية لم يعودوا أصحاب مكانة لدي الشعب المصري، ودعونا ننظر للأمر من جهة الحكومة المصرية- وهي نظرة غائبة عن تحليل الكثيرين- لم ترد الحكومة على هتافات المتظاهرين بالإيجاب ولا بالسلب، لكنهم أهملوا تلك المظاهرات، غير أنني أستطيع أن أقول بثقة، أن الحكومة كانت خائفة مما جرى في"تونس"، فلم يكن ممكن للحكومة أن تتنازل أو تقدم تنازلات كما حدث في"تونس"، وإلا زاد ضغط المتظاهرين وطالبوا بما هو أكثر من الذي حققوه. ولم يكن من الممكن أن يتحرك الأمن بشكل سلبي حيال المتظاهرين لسبب بسيط، لأن ذلك سيعد استفزاز للمتظاهرين أكثر، فقد يفجر موجات غضب متواجدة أصلاً كالتي انفجرت في"تونس"، لذا كان مطلوب فقط تحجيم الموقف وليس منعه، لذا رأينا مظهر حضاري بعض الشيء، وتخفى ورائه بعض المصادمات التي فرضتها طموحات غير شرعية من جماعات محظورة، وغير شرعية.

مما تقدم، يتضح لك أن المشهد الخارجي المتمثل في"تونس"وثورتها الناجحة ألقى بظلاله في المشهد المصري الداخلي، أي أن السابقة التونسية الشعبية أغرت الكثيرين، ولكن نستطيع أن نشير من طرف خفي وخبيث إلى أن الموقف اللبناني المتفجر أجبر الحكومة المصرية إلى أن تجد نفسها مجبرة على أن تسيطر على الموقف بأكثر إلحاح وإلا انفلت الموقف لصالح جماعات رفضت في البداية النزول للشارع، ونزلت في وسط النهار ملتهبة فرصة تكبيل يد الشرطة على غير العادة، وانتشار الشعب في الشارع مما أتاح لهم الفرصة أن يندسا في أمان بحيث يصعب على الشرطة التفرقة بينهم وبين الشعب المصري غير المُسيس، وغير المهتم بالسياسة العليا للبلاد، الشعب الباحث عن حقه في العيش الكريم والمحترم والذي افتقده في كنف هذه الحكومة الممثلة لرجال الأعمال.

وقد تغير أيضاً من الأحداث الكثير، مما أضعف الحال المصري في الخارج، فقد ضعف نفوذ المصري في لبنان، وصار على الحكومة المصرية ضغوط من قوى خارجية متمثلة في"إيران"، مما أحرج موقف الحكومة المصرية داخليًا، فكان صعب على الحكومة المصرية أن تلعب دور غير دور المتفرج لكنها لم تستطع للأسف، لأنها شلت يديها بسبب ضعفها واهتزازها، وعدم وجود رؤيا صحيحة للشعب، حيث أنها بعيدة عنه كل البعد تستقي معلوماتها عنه من خلال تقارير فاسدة.

لا تنسوا أن الرئيس"السادات"نفسه لم يكن موجود في يوم الغضب، لكن الرئيس"مبارك"هو الموجود، وهو رجل صاحب أفق واسع يعرف كيف يترك الشعب بحدود يثور ويتظاهر ليثبت ديمقراطية نظامه أمام الشعب المصري أولاً، وأمام الرأي العام العالمي ثانياً، حتى تبطل حجج الغرب والأمريكيون خاصةً، في أن"مصر"بلد يحكمها نظام مستبد، وقد كان للرئيس"مبارك"ما أراده، واستطاع أن يستغل الموقف الذي جرى في تونس لصالحه حتى يستطيع أن يسيطر على"مصر" وشعبها بحنكة لا تجعله يقدم تنازلات تظهره بمظهر الضعيف، وبات واضحاً لا جدال أن حكومتنا حكومة مهتزة ضعيفة، فلم يصدر منها أي تصريحا سلبياً أو ايجابيًا، مما يعني أنها مغيبة تماماً عما يحدث وعن مطالب هذا الشعب.

وأخيرًا، بات واضحاً أن الحكومة المصرية وبشكل قاطع قد اختُزِلت في وزارة الداخلية، وهو أمر يكرس حقيقة كانت معروفة للجميع، أن مصر بلد أمني بلد يحكمه الأمن، وباقي أعضاء الحكومة فقط صوريين، ينفذون ما يعمل لمصلحتهم كحزب من رجال الأعمال.
كما لا يفوتني أن أشير لك، أن الأحزاب التي لعبت دورًا فعالاً في يوم انتفاضة الحرامية كانت غائبة، مما يعني  حقيقة أنه لا توجد معارضة، وأن النظام المصري أفلح في أن يهمشها ويضعفها ويبعدها عن الشعب، ويخلق فجوة كبيرة بين المعارضة والشعب المصري مما أضعف المعارضة، ولم يجعلها قادرة بأن تخرج ولو بنصف هذه المظاهرات حين طُحنت وسُحِق عظامها، يوم أن تم تزوير الانتخابات، فأين كانت المعارضة؟ وأين كانت هذه الجماهير كلها؟ وأين كان هؤلاء المتظاهرين كلهم يوم أن سُلبت مصر، وسُرقت كراسيها في البرلمان المصري منذ أقل من ثلاث أشهر؟ إلا إذا كان بوحي من ثورة الياسمين التي تؤكد أن المشهد الخارجي أثره الكبير في المشهد الداخلي.

وهكذا نكون قد حاولنا أن نقدم لكم عرضاً تحليلياً قدر الإمكان للأوضاع الداخلية والخارجية التي تغيرت، فيما بين انتفاضة الحرامية ويوم الغضب، مما أسفر عن الظهور بهذا المظهر المتحضر من قبل الشعب المصري الذي لم يظهر به حتى في يوم انتفاضة الحرامية، وكأنه استعاد أمجاد المصريين فيما قبل ثورة يوليو، وهي الأمجاد التي لم يكن متوقع استعادتها، وما يؤكد ما أذهب إليه ما قام به الحزب الوطني من عقد غرفة عمليات لمتابعة المظاهرات، وهو الإجراء المتأخر جداً في رأيي، والذي كان واجب تنفيذه منذ بداية الإعلان عن أنه ستحدث مظاهرات في اليوم المعين، مما يعني أحد أمرين أو كليهما، إما أن الحزب لم يكن متوقع ما وصلت إليه المظاهرات، وأن الأمر لم يعد في حدود توقعاته، أو أنهم لا زالوا يرزحون تحت نير بطئهم وتخاذلهم الذي قد يؤدي إلى أمور قد لا يحمد عقباها على الأقل من جانبهم لو استمروا على هذا الوضع المتدني من حسن التوقع والقيادة لمجريات الأمور، وقد يكون انعكاس لأمر آخر مؤكد نستطيع إضافته لأحد الأمرين، وهو أن الحزب الوطني نفسه بعيد كل البعد عن الشعب المصري، مما يعني أنه غير قادر على معرفة مطالبه وقدراته، وما قد يكون قادر على أن ينفذه، وثمة أمر أخير يعكسه تدخل الحزب الوطني، واستبعاده لحلول الحكومة، أنه لم يعد يثق بها، وبحلولها ،وإمكانياتها، أو أنه شعر أن الأمر قد تخطى قدراتها.
خلاصة الكلام ربنا يستر.