بقلم - محمود بسيوني
تحدَّى الرئيس عبدالفتاح السيسي المتطرفين، سواء من المسلمين أو المسيحيين، وذهب للمرة الثالثة إلى الكاتدرائية المرقسية، رغم التحليلات المختلفة التى ذهبت إلى توتر العلاقة بين الدولة والمسيحيين، ثم أمعن فى التحدي وتبرَّع من ماله الخاص لبناء مسجد وكاتدرائية كبيرة فى العاصمة الإدارية الجديدة، ثم عبَر خطوطهم الحمراء وقام بالدعاء إلى الله من داخل الكاتدرائية التى وصَفها ببيت من بيوت الله.. إنه يومهم الأسوأ على الإطلاق.
 
لم يضع الرئيس أسسًا جديدة للعلاقة البروتوكولية بين الرئاسة والكنيسة الأرثوذكسية فقط، بل استعاد روح التفاهم والمحبة والسلام التى ربطت بين المسلمين والمسيحيين على أرض مصر منذ آلاف السنين.. حوَّل مفهوم شعب واحد ومصير واحد إلى حقيقة يعيشها الناس رغم كل تحديات التطرف والإرهاب، فالرئيس المسلم يتعامل مع الكنيسة على أنها بيت من بيوت الله، والجيش يقوم بترميم وبناء الكنائس الجديدة التى يتبرع لها الرئيس المسلم، ثم يذهب للدعاء فيها لرب العالمين فى مشهد غير مسبوق ويعكس التزام الرئيس السيسي بمشروعه لبناء الإنسان المصرى الجديد. ولعل هذا هو السر فيما قام به الرئيس.. إنه تقدَّم بنفسه وقرَّر مواجهة أفكار أهل الشر وقتل محاولاتهم المستميتة لزرع الفتنة والتطرف لدى أجيال جديدة من المصريين يرون الآن رئيس أكبر دولة إسلامية يدعو داخل الكنيسة ويصفها ببيت الله.
 
لقد ردَّ الرئيس بنفسه وبشكل عمليّ على فتاوى المتطرفين بتحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، أو هدم الكنائس الجديدة وعدم ترميم القديمة، وقتل ما تبقَّى من الخط الهمايوني وأفكاره التى تنتمي للاحتلال العثماني لمصر، وقدَّم تعازيَ ضمنية من مسلم يؤمن بالله الواحد للمسيحيين عن جريمة قتل المصلِّين فى الكنيسة البطرسية.. دخل الرئيس الكنيسة فى موكب الفرح وسط غناء الشمامسة لترنيمة "أوبورو"، وهى الترنيمة التى تستعمل فقط حين يدخل إلى الكنيسة شخص مرموق.. حتى قُبلتُه للطفلة التى جرت ببراءة نحوه كانت رسالة أبٍ استوحش فراق ابنته.. فى رسالة للشهيدة الجميلة "ماجي" علَّها تصلها.
 
بالقرب منه يقف البابا تواضروس على نفس موجة التفكير، ولعل إشارة الرئيس إلى عدم تلقِّيه أي طلبات من البابا تعكس حالة التفاهم العميقة التى تجمع الرئيس والبابا وتردُّ عمليًّا على محاولات شق الصف، وتقطع الطريق أمام محاولات التلاعب الخارجي بملف الفتنة الطائفية الشائك وأعطت الكنيسة درسًا جديدًا فى الوطنية لجميع القوى السياسية، حينما رفضت مناقشة الكونجرس الأمريكى قانونًا يراقب قيام الحكومة بتنفيذ تعهداتها فى بناء الكنائس.. إن الكنيسة المصرية تكتب تاريخًا جديدًا وعظيمًا يُحسَب لها فيه أنها تقف بجانب الوطن فى مِحنته وتساعده بقوة لاستعادة عافيته ودوره التنويري في العالم. 
 
ومن الخطأ تحليل المشهد على أنه ردٌّ على ضغوط أمريكية أو رسائل للغرب؛ لأن الأمر فى هذه الحالة قد لا يتطلب من الرئيس أن يقوم بما قد يعرِّض حياته للخطر، وما قام به فى الكنيسة يزيد من نار تكفيره.. فحياة عبدالفتاح السيسى على المحك منذ أن قرَّر تحدي المتطرفين فى ثورة 30 يونيو، ومحاولات قتله وإسكات صوته لا تتوقف، ورغم كل ذلك قرَّر الاستمرار في التحدي وتحقيق حلمه ببناء إنسان مصري جديد قابل للتعايش مع الآخر ومتفهم للتنوع.. إنسان جديد يقدِّس البناء ويكره الهدم.
 
لقد تحدَّى الرئيس تراثًا طويلًا من العلاقات المتوترة بين أنظمة الحكم والكنيسة الأرثوذكسية، وقرّر أن يكون عمليًّا رئيسًا لكل المصريين، لا ترهبه أفكار التشدد ولا دعاوى التطرف، واتضح أن لديه تصميمًا على إغلاق ملفٍّ أرَّقَ مصر منذ سنوات طويلة وعرَّض تماسكها الأهلي لخطرٍ شديد.
إن محافظة مصر على تراثها الإنساني والحضاري، واستحضارها رُوحها المتسامحة المُحبّة للسلام، هو النور الذى يخرج منها لهداية عالم خاصَمَ السلام.