الأنبا رويس
ولد قديسنا الشهير في حوالي سنة 1334 لتجسد المسيح، في ضيعة "منية يمين" بمحافظة الغربية، وتوفي في 18 أكتوبر سنة 1404 للميلاد. معنى هذا أنه عاش 70سنة. اسمه الحقيقي بالميلاد هو "فريج" ومنها جاءت كلمة فرج، وينطقونه بالقبطية بضم الفاء أو (فوريج) PHOREG كما يسمي أيضًا في المصادر الكنسية (الخولاجي) باسم (تيجي) TEGI، وهو الاسم الذي أطلقه القديس على نفسه إنكارًا لذاته، عندما سئل مرة عن اسمه.
كان رجلا يعيش في الخفاء له روحانية غير عادية، لم يكن راهبًا ولم يكن كاهنًا، وإنما كان رجلاً علمانيًا من المؤمنين، لكنه وصل إلى مراحل روحانية عالية، وصل للسياحة وإلى الاختطاف العقلي، ولكي ينكر نفسه أطلق على نفسه اسم تيجي. وأما الإسم رويس فقيل إنه الاسم الذي تنكر تحته بصعيد مصر، وفي حقيقته هو اسم تصغير باللغة العربية العامية لكلمة رأس وهي رأس (القعود) وهو الجمل الصغير الذي كان يلازم القديس دائمًا ويتبعه كظله بالنهار والليل، والذي من فرط حبه له أطلق اسم رأس الصغير عليه. فقد كان هذا القعود يداعب سيده فريج، ويغطيه إذا نام بدون غطاء، كما كان يوقظه في مواعيد الصلاة.
طبعًا أشياء غريبة وعجيبة جدًا، كيف أن القعود كان يوقظه لكي يقوم يصلي،هذه الأشياء الغريبة لا أستطيع أن أقول إنها تخضع للمنطق العقلي، ولكنها صورة من صور الصداقة بين القديسين والحيوانات.
نشأ القديس فريج أو رويس فلاحًا كأبيه إسحق، وكانت والدته تسمى سارة، وكان في شبابه المبكر يعاون والده الفلاح بالعمل معه في الحقل، كما كان يحمل الملح على جمله الصغير وهو القعود رويس، ويبيعه للراغبين في الشراء. وما لبث أن وهب نفسه لحياة الصلاة التي بلا انقطاع، التي قال عنها الكتاب المقدس في تسالونيكي الثانية: "صلوا بلا انقطاع" وكلمة صلوا بلا انقطاع ليس معناها أن الإنسان يصلي الصلوات العادية بمواعيدها فقط، بل يشغل نفسه بالصلاة في أثناء أي عمل يقوم به، وهو يزرع الأرض يصلي يارب ازرع الفضيلة فيَّ، وهو يغسل طبقًا يصلي يا رب اغسل قلبي ونقني من الخطايا، هكذا في كل عمل يعمله يتخذ من هذا العمل فرصة للصلاة، وبذلك يعيش حياة الصلاة بلا انقطاع، بل كان الأنبا فريج يقضي أوقاتا طويلة في خلوات روحية كانت تمتد أحيانًا إلى شهور يختفي فيها عن عيون الناس، وينقطع فيها عن اتصالاته بالمجتمع، يعكف فيها على الصلاة والتأمل. وهذا يعطينا فكرة أن المؤمن العلماني العادي يستطيع أن يصل إلي درجات القداسة العالية جدا، لو اهتم بأن يقدس روحه ويعيش هذه الحياة الروحانية العالية من دون أن يلبس زيًا معينًا، ولكنه يهب حياته عمليًا للصلاة والتأمل.
عاش طوال حياته زاهدًا ناسكًا، وكان يقنع بالقليل من الطعام والشراب، وبالتافه من الملابس الذي لا يكاد يستر غير القليل من جسده. أما الباقي من مساحة بدنه فكان يتركه لحر الصيف وبرد الشتاء، وكان يعلم أن كل هذه الأمور المادية باطلة، وكان يوجه قلبه ووقته وأعصابه للأشياء الجوهرية المهمة، وهي التأمل والصلاة والشخوص في الله، كما كان يمشي عاري الرأس أشعث الشعر، وذلك ليمارس حياة التجرد المطلق من كل شئ، فلم يكن له من قنية غير جمله الصغير رويس وهذه ما يسمونها حياة التجرد من القنية، ولم يكن له مكان يسند إليه رأسه، فكثيرًا ما كان يستلقي راقدًا على قارعة الطريق، وهذا ما كان يعرضه لكثير من إهانات وضروب السخرية من جانب صبية الشوارع وبعض الغوغاء ممن لا يعرفون قدره فكانوا يضحكون عليه، إذ كانوا لا يدركون أنه يخفي روحانيته بتصرفات غريبة.
هذا هو منهج التخفي الذي سار عليه كثير من الأشخاص الروحانيين ليحولوا نظر الناس عنهم ولا يضفوا عى أنفسهم هالة حتي لا ينالوا مدحًا ولا كرامة، أو يحس الناس أنهم قديسين، فبهذه التصرفات الغريبة يصرفون الناس عن تكريمهم أو تمجيدهم أو مدحهم أو احترامهم، بل علي العكس ينالون تحقيرًا من الناس أو سخرية بهم، وكانوا يفرحون بهذه الشتائم والإهانات بل أحيانا كانوا يطلبونها، فمنهج التخفي هذا ساعد الروحانيين على الارتفاع لمراقي الحياة الروحية العالية، فالحقيقة طوبى للإنسان الذي ينمو والناس عنه نيام، وهذا ما قاله سيدنا له المجد النبات ينمو والناس نيام وأيضا هؤلاء الروحانيون بمبدأ التخفي يهربون من حسد وحروب ومعاكسات الشياطين.
كان الأنبا رويس من هذا الطراز الذي يحب أن يسخر منه الناس ويضحكون عليه، ليعطوه فرصة للنمو الباطني، وأيضًا حتى لا تحسده الشياطين، أنا أيضًا رأيت راهبا كان في المناهرة اسمه أبونا "عبد المسيح المقاري"، وكان الراهب من هذا الطراز أيضًا، الذي كان يفرح أن يشتموه ويسخروا منه حتي لا ينال كرامة من الناس. على أن هذا الرجل البسيط الأنبا رويس عاش حياة شظف وقسوة، لا توجد فيها نعومة وسهولة الإنسان العادي، ومارس الأصوام العنيفة التي مارسها من قبله كبار الروحانيين، فقد كان يصوم يومين يومين، وثلاثة ثلاثة، صومًا انقطاعيًا، وصام مرة أسبوعًا كاملاً، وصام مرة أخرى أحد عشر يومًا متوالية، كما شهد عنه البطريرك الأنبا "متاؤس" البابا السابع والثمانون، الذي عاصره، وهو مدفون تحت في كنيسة الأنبا رويس، وكان صديق الأنبا رويس، وكان هذا البطريرك رجلاً قديسًا،ً وكان رجلاً روحانيًا، وبلغ من روحانيته أن حاكم البلد كان يستشيره في شئونه الخاصة، ولذلك كانت حالة الأقباط طيبة جدًا في عهده، وبسبب قداسته وروحانيته العالية كان يري الملاك ميخائيل والقديس مارجرجس معه وأمامه في الطريق.
ومرة أخري صام الأنبا رويس 26 يومًا صومًا متواصلاً بغير انقطاع، هذا فيما عدا المرات التي لم يتوصل إلى معرفتها أحد، فقد كان يختفي كثيرًا، ويمارس في خلواته الطويلة رياضات روحية كانت ترفع عقله وروحه إلي الرؤيا الطوباوية (الثيئورية) التي قال عنها الرسول بولس: آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته أعرف إنسانًا... وهذا هو الاختطاف، ففي الرؤية الثيئورية وهي أعلى درجة في درجات الرهبنة التي يصل الإنسان إليها بالتسامي وحصار الروح، فيري المكاشفات الروحانية، والأنبا رويس وصل إلى هذه المرحلة التي فيها يختطف العقل لكي يعيش في السماء وهو على الأرض.
ونظرًا لتلك الرياضات الروحية من أصوام وصلوات وتأملات عالية في أماكن الخلوات، كان له نصيبًا وافرًا من المكاشفات الروحية التي كانت تعزيه وتقويه وتجعله دائمًا شاخصًا في الإلهيات. ولقد حظي الأنبا فريج برؤياه للمسيح خمس مرات، كما خاطبه المسيح له المجد مرة، فمًا لأُذن. ولهذا السبب صار الأنبا فريج يلقب في الكنيسة بلقب اختص به بين القديسين وهو "ثيوفانيوس THEOPHANIOS" أي الذي رأى الله. هكذا الأنبا رويس وصل لهذه المرحلة علي الرغم أنه ليس راهبا ولا كاهنًا، وهذا حسن جدا لنا يا أولادنا لأنه يرينا أن طريق الفضيلة وطريق الروحانية مفتوح ليس للرهبان والكهنة فقط، بل أيضًا للعلمانيين والمؤمنين، إذا سلكوا بقلوبهم وحواسهم هذا النوع من الحياة.
ومن بين المكاشفات الكثيرة التي تمتع بها الأنبا رويس، أنه رأي كائنين في صورة رجلين مضيئين بلمعان كالبرق، اختطفاه وحملاه إلي السماء، ثم أدخلاه إلى كنيسة، هناك رأي فيها جمهورًا كبيرًا من العابدين، وسمع صوتًا من داخل يدعوه قائلاً: أنت جوعان يا هذا، فتقدم وكل من خبز الحياة، وعندئذ قدمه الرجلان الروحانيان من المائدة المقدسة، فتناول ثم أعاداه من فوره إلي الموضع الذي أخذاه منه، ومنذ تلك اللحظة كان يحرص أشد الحرص على التقرب دائما من القربان المقدس، وإن كان في كل مرة يتقدم برهبة كثيرة وارتعاد حتى إنه كان يتراجع كلما تقدم، مما كان يسبب للكاهن تعبًا، فكان ينتهره ويزجره، خوفًا أن تقع منه الجواهر، أما هو فكان يري بعينين مكشوفتين ما لايراه غيره من البشر بعيونهم المجردة... كان يرى الأسرار مكشوفة علي صورتها الحقيقية كان يرى مجد الله على الأسرار المقدسة في الهيكل، كما كان يرى الكروبيم والسيرافيم متهللين وخاشعين... كما يقول الشماس ارفعوا أعينكم نحو المذبح تجدون المذبح وجسد ودم عمانوئيل... والكاروبيم والسيرافيم...
فالأنبا رويس كان عنده الشفافية الروحية، ولذلك عندما كان يري الأسرار يرتعد ولقد أجاب مرة على من سأله عن سر تراجعه وتردده أثناء التناول بأنه لايستحق التناول من هذه الأسرار المقدسة إلا من كان جوفه طاهرًا نقيًا، كأحشاء سيدتنا الطاهرة مريم التي استحقت أن تحمل المسيح في أحشائها. ومن بين تلك المكاشفات أنه كان مضروبًا، فأدخلوه إلى مخزن فيه مدة سنتين مريضًا. وفي الليلة التي دخل فيها إلى المخزن، رأى داخل المخزن شبه نار تشتعل، ورآها معه الذين حوله فجزعوا، أما هو فطمأنهم قائلا: لا تظنوا أنها نار... إنها نور سيدنا يسوع المسيح، وقد ظهر لي إتمامًا لوعده القائل في المزمور، إنه يعينه على سرير وجعه. وكان ذلك تعزية سماوية له.
ومن فرط شفافيته كان يرى الأحداث البعيدة عنه برؤيا العيان رغم بعد المسافات؛ فقد رأى روح القديس "مرقس الأنطوني" صاعدة بعد وفاته، فأنشد القديس فريج يصيح بصوت مرتفع سمعه الناس من حوله: يالحسرة أولادك من بعدك يامرقس... يالخسارة تعاليمك التي سينقطع نورها عن جيلك!! وهذه الحالة لا يصل إليها الإنسان إلا لو أُعطي الروح الإنسانية التي هي جوهرة من الله وعلى صورته ومثاله، الغذاء الروحي الكافي والتقدم في الفضيلة والقامات الروحية.
ولقد وهبه الرب موهبة الاختطاف بالجسد لينتقل بها من مكان إلى مكان، لإنجاز بعض المهام الروحية، ومنها إنقاذ من يستغيث بصلواته للخلاص من ضيقة، أو لتحقيق غرض من الأغراض الروحية. والاختطاف نوعان؛ اختطاف بالروح واختطاف بالجسد، والاختطاف بالجسد مثلما حدث لفيلبس الشماس، الذي اختطفه روح الرب من غزة، فوجد في أشدود بعد أن عمد وزير الحبشة (أعمال 8:36 ــ 40).
ومثلما اختطف الملاك "حبقوق" النبي من جمة رأسه وأوصله من فلسطين إلى بابل، لكي يقدم الأكل لدانيال دلالة عناية الله به، ثم أعاده الملاك مرة أخرى، وهذه مذكورة في دانيال. وهناك بعض القديسين كانوا يختطفوا بالجسد مثل الأنبا "أنطونيوس"، والأنبا "بولا" ومثل الأنبا "رويس". ومن ذلك إن امرأة من شهيرات القبط وكانت تسمى (بنت الزهري)، سافر زوجها مع الأمير "منطاش" إلى الشام، وانقطعت عنها أخباره، فاستغاثت بالقديس الأنبا رويس، فقال لها القديس: لا يمكنني أن أساعدك مالم أتوجه إلي الشام، وأقف بنفسي علي أحوال زوجك. ثم نهض علي الفور وسار في الطريق إلى (قناطر الأوز) المؤدية إلى الشام، وغاب نحو ساعة، ثم عاد إلى المرأة، فلما أبصرته قالت له باكتئاب: هل رجعت عن رأيك؟ ألم تعذبني بالسفر إلى الشام لتطمئن على صحة زوجي وأحواله؟ فأجابها قائلاً: لقد بررت بوعدي، وكنت في هذه الساعة بالشام، ورأيت زوجك، وأنقذته من أعدائه وهو الآن بأمان، فاندهشت المرأة من مقاله ولم تفهم شيئًا. فلما رجع زوجها سألته عن أخباره، فقال لها: عند عودتي من الشام ثار علي الجنود المنطاشية وأرادوا الفتك بي في الصحراء، ليستولوا على ما بعهدتي من الأموال. وإذا بشيخ عاري الجسد مكشوف الرأس، كان علي رأس جماعة، هجم عليهم وبدد شملهم،ث م رافقني هو وجماعته حتى أوصلوني إلي الوطاق السلطاني عند الملك الظاهر برقوق، ففرح بي كثيرا وقصصت عليه كيفية خلاصي من الجنود. فتعجب ثم سألني عن الشيخ العريان ومقره، فلم استطع أن أدله عليه، فهتفت المرأة في الحال متهللة وأجابت زوجها: هذا الشيخ العريان هو أبونا الطوباوي رويس، وهي الذي شفى بصلواته عيني من الرمد، وهو الذي استغثت به عند غيابك الطويل بالشام، فأنقذك.
هذا الرجل لم يكن كاهنًا ولم يكن راهبًا، إنما كان ينتسب إلى طبقة المؤمنين عامة الشعب الذين نسميهم بالعلمانيين، ومع ذلك أخذ لقب الأنبا بمعني الأب، لا لأنه كان كاهنًا ولا لأنه كان راهبًا، وإنما لأنه أصبح بالنسبة لكثيرين أبًا، وأصبح له تلاميذ في الروحانية وفي القدوة، وفي نموذج السيرة، فسمي بكلمة الأنبا رغم أنه علماني. فهو لم يكن كاهنا ولا كان راهبا ولا كان أسقفا، ولكنه كان بتولا، وكان طاهرًا وكان يحيا حياة العفة الكاملة ووصل إلى هذه المقامات الروحية العالية.