عاشت مصر، الفترة الأخيرة على وقع أحداث دموية راح ضحيتها شهداء مصريون طالتهم يد الغدر والإرهاب الغاشم الذى لم يعد يفرق بين الأيام التى عظمها الله ولا بين الأعياد الدينية، بعدما عمى الجهل والكره والرغبة فى الانتقام من شعب بأكمله، بصيرته وأصبح يقتنص الفرص والثغرات من أجل إحراج الدولة وضرب اقتصادها وتأجيج الفتن بين مكونات شعبها.مصر، ومنذ رفضها الرضوخ لحكم إخوانى، كان يخطط للتمكن من مفاصل الدولة وإخضاعها تحت سلطة المرشد، وهى تواجه حرباً مفتوحة أعلنها الإرهاب الجبان، ليس فقط ضد النظام الحالى، ولكن ضد الدولة وضد الشعب الذى يشيع بعد كل حادث واحداً من أبنائه، وهدف الإرهاب فى كل مرة هو إضعاف مصر أمنياً وإنهاكهاً عسكرياً وضربها اقتصادياً، فى محاولة لهدم الدولة، مسخراً لذلك كل أدواته وأساليبه وإمكانياته.
وإذا كانت التحديات والمخاطر التى تحدق بمصر كثيرة وكبيرة، فليس الإرهاب، الذى تمثله داعش أو جماعة الإخوان أو باقى التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، هو الوحيد الذى يمثلها، وإن كان هو أكبرها وأخطرها، بل هناك من لا يقل عنه خطورة، وهى الفتنة الطائفية التى تتفرع منها/إليها كل السرطانات التى تنخر الجسد العربى وتهدد بتفتيته وتشتيته، فالطائفية تولد التطرف، والتطرف يولد الإرهاب، وأينما حل الإرهاب استيقظت النزعات الطائفية، وكأننا فى حلقة مغلقة، ما دام الإرهاب يستغل الطائفية كسلاح يمكن استخدامه من أجل توسيع مشاعر الانقسام وتوسيع دائرة الاحتراب واستقطاب وتجنيد الشعوب ضد بعضها، وتؤدى الطائفية إلى تعاظم مشاعر المظلومية واختيار الإرهاب كوسيلة للرد، دوامة هى؛ ولا نريد لمصر وللمصريين بنسيجهم الوطنى المتلاحم أن يسقطوا فى هذا الفخ، كما سقطت فيه دول عربية واحترقت بنيرانه التى اشتعلت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تطفأ بعد.
واليوم الاحتراب فى سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان والسودان، بعدما انكفأ الشيعى إلى شيعيته والسنى إلى سنيته، واستعاد كل واحد منهم الصراع المذهبى السنى - الشيعى الذى لا تزال ناره قابلة للنفخ فيها وتأجيجها على الرغم من مرور خمسة عشر قرناً على اندلاعها، مجتمعات بأكملها تتمزق باسم الدين وتُذبح بسكين الطائفية، وزادها تمزيقاً التطهير العرقى الذى ينفذه تنظيم داعش الذى أجج الصراع الطائفى أكثر ودمر ما تبقى من تعايش ثقافى ودينى ومذهبى، وبات أبناء الوطن الواحد يقتلون بعضهم دون ذنب سوى أنهم يعتنقون مذهباً مخالفاً.
الأسباب التى تؤجج الطائفية كثيرة وتتوزع بين ارتباط المجتمعات سلبياً بالموروثات التاريخية واحتكامها إلى وقائع حدثت منذ عشرات القرون فى خلافاتها الاجتماعية والسياسية القائمة اليوم، وبين غياب ثقافة التعددية الفكرية وانعدام لغة الحوار وثقافة التوافق السياسى، مع شعور أهل بعض القوميات والطوائف بوجود تاريخ من الظلم المتراكم على مجتمعاتهم، بالإضافة إلى الانتصار للمصالح الضيقة للسياسيين أو القائمين على بعض الجماعات المعنية بالطوائف، وغيرها من الأسباب، إلا أن انعكاسها على الدولة والمجتمع والمنطقة ككل يبقى واحداً وكارثياً، وهو الدمار والشتات.
المنطقة تدفع ثمن حروب اُستغل فيها الخطاب الطائفى والصراع الطائفى كشماعة لتمرير سياسات أو تبريرها، وكفزاعة استخدمتها الأنظمة من أجل السيطرة على شعوبها وضمان عدم خروجها من تحت عباءتها، لنجد أن هذه الأنظمة كرست للطائفية، من خلال خطاب إقصائى وسياسات تعسفية تصنف الآخر على أساس مذهبى، عقائدى، أيديولوجى، وأيضاً كوسيلة لتبييض التدخل العسكرى، باعتباره يحول دون الاقتتال الداخلى والصراع الطائفى، وأخيراً كغطاء لتهيئ الأرض لاحتضان الإرهاب وتبريره، والنتيجة، فشل الأنظمة فى تحقيق مفهوم الدولة التى تتسع لجميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية أو المذهبية، وفشل الشعوب فى الدفاع عن حقها فى مبدأ المواطنة التى تعنى إعطاء كافة الحقوق المدنية والسياسية والدينية بشكل كامل ومتساوٍ لكل مكونات الشعب، مما جعل انتماءها للطائفة بديلاً عن انتمائها للوطن، وفشل الآلية العسكرية فى وأد الصراع الطائفى بل أججته أكثر، بينما انتصر الإرهاب الذى يحصد كل يوم مزيداً من الأرواح ويبتلع مزيداً من الأرض.إن خطورة الطائفية تتجاوز بث بذور الحقد والشقاق باعتباره بداية للانفصال الإنسانى والاجتماعى وصولاً للانفصال الجغرافى فى دولة ما، بل هى أصبحت خطراً عابراً للحدود، إذ إن نزوح ما يقرب من مليونى شخص من منازلهم بسبب الحروب وإرهاب داعش يعنى حدوث تغيرات سكانية فى الدول المستضيفة، وهذه التغيرات ستضاعف من التوترات المجتمعية القائمة وربما الخامدة فيها، ما جعلنى أذكر هذا الواقع المؤلم الذى تعيشه المنطقة العربية بسبب استغلال الطائفية هو أننا لا نريد لمصر بأى شكل أن تسقط فى هذا الفخ، استهداف الكنيسة البطرسية هو مثل استهداف الكمين الأمنى أمام مسجد السلام، فكلاهما يستهدف الوطن والمواطن بغض النظر عن دينه، ومن يريدون استغلال تفجير الكنيسة من أجل إشعال نار الفتنة، فواجب الشعب بكل أطيافه أن يقطعوا الطريق عليهم، وذلك بالتسلح بإعلاء راية الوطن من أجل اجتياز هذه اللحظات العصيبة.
والرحمة لكل الشهداء.
نقلا عن الوطن