الأقباط متحدون - الله محبة!
  • ٠٩:٢٥
  • السبت , ٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
English version

الله محبة!

مقالات مختارة | أحمد عنتر

٥١: ٠٩ ص +02:00 EET

السبت ٢٤ ديسمبر ٢٠١٦

أحمد عنتر
أحمد عنتر

«جاءنى المسيح فى الحلم ودق أطرافى بالمسامير، لم أرتعب ولم أتململ ولم أتألم، عشت اللحظات التى عاشها أبانا من قبل وفاضت روحى بسلام»، قالها مينا ميمماً وجهه شطر الكنيسة المحترقة، لملم بعض رماد من أمامها ووضعه على جبينه والتفت عن يمينه إلى أمه الدامعة وأكمل سعيه معها إلى نهاية الشارع ثم أغشى عليه.

«ها أنا ذا قابض على الحياة كما كنت دائماً، ويا ليتنى كنت معهم فى الملكوت»، تسربل بالضى الخافت الذى أضاءته أمه بشمعة نصف ذائبة، بعد أن أطفأت نور حجرته الذى يستثيره.. «هكذا يهذى منذ يومين فاتا على انفجار الكنيسة البطرسية»، قالت أمه محدثة نفسها وتلحفت وجعها، وخرجت إلى الشرفة تعدد صرخات الجيران على الجثامين المشيعة.

كانت مارية موجوعة بقدر وجعه لكنها كانت صلبة منذ مات الزوج، ارتحلت فى ذكراه لكنها ما فرطت فى عهد المسيح المقدس، وأخذت على عاتقها أن تربى ابنها كما ربى الأولون أبناء الرب فى أرضه، «ليه بيكرهونا» باغتها من خلفها بالسؤال فابتسمت وتذكرت مشهداً سينمائياً مألوفاً، فردت: «إحنا من إمتى بنسأل الأسئلة دى يا كلاوى»، فلم يعقب.. ولم يتبسم.

مرت الأيام كالحلم، نامت واستيقظت ونامت واستيقظت، وفى كل مرة انفجار وألم وعظامها تتفتت ولحمها يحترق والصرخات تدوى من حولها واللهب.. آه من اللهب، وهناك رجل أسود دائماً يخرج من عينيه البارود والنار لتلتهم حنجرتها فينحبس الصوت وتخفت الأذكار وتسقط الترنيمة وجوارها تمثال العذراء المحترق.

أسفل الرماد هناك دم محرم، وهناك ذكرى لمن رحلوا إلى الملكوت وهناك مادلين التى أحبتها كابنتها وهناك ميرولا مينا، الطفلة التى كانت تملأ الكنيسة مرحاً وصخباً، هؤلاء تلونت بهم لوحة جدارية وهمية بجوار صورة «السيد»، والصداع يعصف برأسها ومعه تساؤل حول «المسلمين»، فعلها نذل يتحدث كما يتحدثون، لكنها لم تجرؤ فى كل صلواتها على أن تدعو الرب أن يعذب المسلمين جميعاً.

القس أخبرها من قبل أن المسلمين ليسوا كلهم هذا «الرجل الأسود»، وقلبها كذلك أخبرها أن بثينة وعائشة وأباهما الحاج معتمد ليسوا كذلك، إذن فالمنفذ الخسيس كان من زمرة تختلف، كأنما صنعه الرب من ذيل الشيطان ولم ينسبه لدين.

اليوم وبعد أسبوعين كاملين من التفجير، عائشة قالت لها دامعة بعد أن دقت بابها: «سامحينا يا مقدسة»، فربتت على خدها البض، وفهمت عن ماذا تتحدث الطفلة التى لا يتجاوز عمرها السنوات الست، فردت: «على إيه يا عائشة، وانتى ذنبك إيه يا صغيرة»، وأدخلتها وأطعمتها من أكل مينا، والطفل ينظر إلى عائشة نظرة بائسة شاردة ويتمتم بكلمات ليست مفهومة، والأم تنظر وتتحفز تخشى أن تنفرج شفتاه بسوء.

ما كانت الأم تعلم أنه غارق مثلها فى التساؤلات، ينظر إلى عائشة التى طالما خرب عرائسها وكسر عظامها فما كانت تضمر له السوء أو تعاتبه بكلمة، بل كانت تأخذ عروستها المهشمة الأوصال إليه وتستعطفه أن يصلحها فيصلحها راضياً باشاً، ويربت على رأسها كل مرة معتذراً، وما كان يكرر فعلته الشنيعة تلك إلا ليرى منها إخبات المحبة والود.

«هذه ابنة الرب مثله ليست فاحشة ولا أذى، لا تضمر له شراً ولا تخطط لقتله، لا يد لها فيما ارتكب حبارة أو عبدالله أو غيرهما»، هكذا فكر وحسم أمره وذهب إلى الصغيرة الدامعة وأطعمها بيده وردد على مسامعها باسماً: «الله محبة»، ازدردت أكلها وجففت دمعها، وابتسمت له ابتسامة أوسع، وقالت: «الله محبة».

القصة تخيلية، لكنها تؤكد فى دلالتها القاعدة التى تربينا عليها جيلاً خلف جيل أن هذا الحادث أو غيره لن ينجح فى كسر مشاعر الممزوجين بالوطنية، ولن ينجح الحزام الملغم الذى يرتديه كل مغرر به فى كسر ما زرعته وصية واحدة من وصايا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم «استوصوا بالأقباط خيراً»، من سكينة وأمان وألفة، وفى كل محاولة بائسة يزداد الرابط صلابة وتزداد المحبة فى الاتجاهين، وتبقى المحاولات السوداء وتبقى فى مقابلها المحبة.
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع