من رسائل الفلاح الفصيح إلى آهات القبطى الصريح
مقالات مختارة | سعد الدين ابراهيم
السبت ١٧ ديسمبر ٢٠١٦
درسنا فى كُتب مصر الفرعونية عن شخصية فلاح دأب على الكتابة إلى فرعون مصر فى العصر الوسيط (حوالى 2000 قبل الميلاد)، بشكواه من مندوبى هذا الفرعون، الذين كانوا يستغلون مواقعهم الرسمية فى مُعاملة الفلاحين مُعاملة ظالمة، لخدمة مصالحهم الخاصة، ولكن باسم الفرعون. وحرص فرعون مصر فى ذلك الوقت بالرد على ذلك الفلاح ، إعجاباً بفصاحته من ناحية، وللتعرف على شؤون الرعية من ناحية أخرى. وقد تعرفنا على ذلك الفلاح الفصيح من خلال النقوش الهيروغليفية على جدران أحد معابد طيبة، فى وادى الملوك.
وقريباً جداً من رسائل ذلك الفلاح الفصيح، ما صادفته شخصياً من شخصية أحد تلاميذى النُجباء من الأقباط المصريين فى أواخر القرن العشرين، والذى دأب بدوره على مُحاورتى فى كل ما يهم شؤون مصر المحروسة، وخاصة ما يتعلق منها بالأقباط المصريين، فى علاقاتهم ببعضهم البعض، بالكنيسة القبطية، وببقية إخوتهم المسلمين، وبالدولة المصرية. ولأنه كان مهنياً مرموقاً، ورفيع التعليم والثقافة، ومن أسرة ميسورة، تنتمى إلى الشريحة العُليا فى المجتمع، فلم تكن لديه، لا مرارة الحِرمان ولا ضحالة الوعى، ولا محدودية الخبرة. فهو كثير الأسفار، شرقاً وغرباً. وبحُكم إجادته لأكثر من لُغة أجنبية، وولعة بالاطلاع، فهو موسوعى الثقافة.
والمصريون القلائل الذين أعرفهم، بهذه الخلفية الفريدة، لا يُعرف عنهم التدين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، إلا بالمعنى الرمزى أو الشعائرى ـ أى فقط فى شهادة الميلاد، والمُناسبات الدينية، كالمواسم والأعياد. فتلميذى هذا نادراً ما يذهب إلى كنيسة بغرض العبادة. وإذا ذهب، فإن ذلك يكون عادة لأداء واجب المُشاركة فى عُرس أو فى جنازة.
وبالخلفية المذكورة أعلاه، لا أذكر أنه خلال الأربعين سنة التى عرفته فيها أنه بادر بمُناقشة أى شأن دينى أو طائفى، رغم معرفته بأن تلك الأمور تدخل فى صميم اهتماماتى الأكاديمية والعامة. وفى المرات النادرة التى حدث فيها ذلك فقد كان بمُبادرة منى للتعرف على وجهة نظره، أو وجهات نظر من يعرفهم من أقرباء أو جيران أو أصدقاء أقباط. فإذا نجحت فى مثل تلك المُبادرات فإنه كان يفعل ذلك بتجرد وحيادية شديدة، وكأنه يتحدث عن الإسكيمو فى القُطب الشمالى.
وأظن أن أول مُناسبة أثرت أنا فيها هذا الموضوع كان فى أعقاب ما سُمى بفتنة طائفية قبل خمس وثلاثين سنة فى منطقة الزاوية الحمراء. وهى الأحداث التى كان ضمنها مسلسل انتهى باغتيال الرئيس الراحل أنور السادات (أكتوبر 1981).
المهم فى هذا الأمر أن هذا القبطى الصريح يعتقد أن مظلمات الأقباط الحقيقية، ليست مجرد بناء كنيسة هنا أو هناك، رغم أن ذلك هو ما يبدو أحياناً على السطح، ولكنه الشوق الحقيقى والدفين للإحساس بالمُساواة الكاملة مع المواطنين المسلمين. وأن ذلك لن يحدث إلا أذا رأوا، ورأى سواهم من المسلمين، عدداً كبيراً من الأقباط يشغلون ما يُسمى المواقع السيادية ـ كوزارات الدفاع والخارجية والداخلية وأجهزة الأمن الوطنى والمُخابرات. ولا يكفى فى هذا الصدد أن يكون هناك لواء بالصُدفة، مثل اللواء فؤاد عزيز غالى، الذى تولى موقعاً قيادياً فى الجيش قبل ثلاثين سنة، أو د. بُطرس غالى، الذى كان وزير دولة للشؤون الخارجية.
ويقول القبطى الفصيح: «حتى فى حالة بُطرس غالى، لماذا لم يصبح الرجل وزيراً للخارجية، وظل لعدة سنوات مُجرد وزير دولة؟ هل كانت تنقصه الكفاءة أو الجدارة؟» وفى نفس السياق رجانى تلميذى القبطى الصريح أن أسأل رئيس جهاز الأمن الوطنى، كم قبطياً، إذا كان هناك، يعملون فى ذلك الجهاز الذى يتجاوز عدد ضُبّاطه الألف؟ وعلى تلك الوتيرة استمر الحوار، ولم تكن لدى إجابات شافية. وقد نقلت تلك الأسئلة لوزيرى داخلية عرفتهما عن كثب فى السنوات العشر الأخيرة، ولم أتلق إجابات شافية أيضاً. وأمعن القبطى الصريح فى حواره، بأن معظم الأقباط الذين يعرفهم ربما لا يرغبون فى العمل فى تلك الأجهزة السيادية، ولكن مُجرد شعورهم أنه حتى لو رغبوا، فلن ينالوا، هو الذى يتسبب فى شعورهم بالتمييز والتفرقة لكونهم أقباطا.
ثم أردف القبطى الفصيح السؤال الاستنكارى الآتى: «هل يُعقل أنه فى أكثر من ألف حادث طائفى منذ أحداث الزاوية الحمراء فى أوائل الثمانينات، لم يُقدم أحد للمُحاكمة، رغم أن كثيرين منهم خضعوا للتحقيق؟» وواجهنى بنفس السؤال بنبرة صوت عالية: «هل سمعت أنت عن مُحاكمات أو أحكام صدرت فى تلك الأحداث؟ هل هناك غير تقبيل اللحى بين المشايخ والقساوسة هنا وهناك؟ أو عبارات المحبة والمودة الجوفاء من شيخ الأزهر وبابا الأقباط؟ يا أستاذى إن ما يُريده الأقباط هو المُساواة أمام القانون، وإعمال هذا القانون فى عدالة ناجزة».
لقد كتبت هذا المقال قبل حادث تفجير الكنيسة البُطرسية فى العباسية، وهو ما سأعود إليه فى مقال قادم.
فهل يسمع رئيس الجمهورية ومن يُهمه الأمر من مُساعديه إلى صيحات القبطى الصريح؟
اللهم قد بلغت... اللهم فاشهد
وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصري اليوم