تلاميذ مُعلمة التربية الفنية وشهيدة "البطرسية": روحها معانا حتى ولو جسمها مش هنا
الجمعة ١٦ ديسمبر ٢٠١٦
كتب: محرر الأقباط متحدون
تلفت أشرف زكريا في مدرسة القديس ميخائيل باحثًا عن روجينا رأفت دون نتيجة، حاول ابتلاع حزنه فخذلته الدموع. تحامل وكيل المدرسة على ألمه؛ توجه لمكتب المُدير، أراد إلقاء السلام عليه، تاهت حروفه، فقال له "أنا عارف إن حضرتك إديت لروجينا أجازة أسبوع وهترجع تاني"، يومها فقط أدرك زكريا أن صديقته لن تعود مُجددًا، بعدما راحت ضمن ضحايا تفجير الكنيسة البطرسية.
طوال 25 عامًا امتلأ وقت روجينا، مُدرّسة التربية الفنية، بصُحبة زكريا وأمل فتحي، صديقتهما الثالثة. ازدادت العلاقة متانة وذابت كل الفوارق فأصبحوا أسرة صغيرة. كان نهار روجينا يبدأ معهما من السابعة ونصف صباحًا، حتى الثانية ظهرًا في المدرسة، قبل استكمال يومهم سويًا بمركز العلاج الطبيعي، الذي افتتحه الوكيل ليخدم أبناء منطقة الظاهر، تطول الرفقة حتى الثامنة مساءً "كنا بنقضي وقت سوا أكتر من مع أهلنا"، حسبما ذكر "مصراوي".
في تمام الثامنة صباح الأحد الماضي؛ هاتف زكريا صديقته للاطمئنان عليها ومعرفة برنامج اليوم. اتفق الاثنان على الذهاب إلى الكنيسة؛ السيدة الأربعينية إلى بطرسية العباسية، وهو لشبرا، مازحها "هولعلك شمعة وادعيلك، عدي الجمايل"، فردت عليه بالمثل. ودّعا بعضهما على وعد باللقاء بعد القدّاس.
صدمة أصابت زكريا بعد أن أخبره والد روجينا بما حدث؛ اصطحب أمل إلى المشفى "روحنا جري، أمل تقع على وشها وأقومها". وصلا الدمرداش، ولجا إحدى الغرف "كانت هي الجثمان التالت اللي بصينا عليه وجنبها مامتها. كإنهم نايمين". دوار أصاب وكيل المدرسة "بقيت بلطم". لم يستوعب المصاب "تخيل تكلم حد الساعة 8 وتروح تستلم جثته بعدها بساعتين".
عقب الحادث بيومين وفي فناء مدرسة القديس ميخائيل، وقف التلاميذ والمدرسون، التراتيل المسيحية حاوطتهم، عُلقت صورة المُدرسة الراحلة على واجهة المبنى "كنا حاسين إن روحها موجودة معانا حتى وإحنا عارفين إن جسمها مش هنا".. قال كيرلس، أحد تلاميذها، فيما فتحت المدرسة إحدى قاعاتها للعزاء، حيث توافد المئات عليها.
عام 1993، كانت أولى خطوات روجينا رأفت داخل مدرسة القديس ميخائيل بحي الضاهر. "روجينا هي طوق كل واحد فينا"، يتلقف نادر عبدالله سرد حكاية المُدرِسة. يذكر آخر موقف بينهما "صممت تكتب درجات الطلبة بإيديها"، حاول إثنائها حتى لا يُرهقها "كنت بقولها كفاية أفضالك عليا بقى". يمتن أستاذ الدراسات لصديقته التي سدّت ثغرات تقصيره في بعض الأوقات "الكلام ده مع الناس كلها، عُمرها ما راحت اشتكت للمدير من حد، كانت بلسم".
لم تكن روجينا يدًا حانية فقط، بل "عمود من عواميد المدرسة.. كانت بتشيل إشراف دور إعدادي لوحدها.. عمرها ما اشتكت. شالت فوق طاقتها بتنظيم معرض دائم للأعمال الفنية جوة المدرسة" حسبما أضاف، صبري عبد الجليل، مُدير المدرسة، الذي تعرّف على المُعلمة منذ خمس سنوات فقط، صارت فيها كأخت له، فيما يقول عبد الرحمن-أحد طلابها "هي اللي حببتني في الرسم.. كنت بجيب 13 من 20 وبعد ما درّست لي بقيت بجيب 19".
في غرفة المعرض الدائم، اكتسى الهواء بالبرودة. القطع الفنية التي صنعتها المُعلمات بإشراف روجينا، متراصة بتأنّي؛ ثمة نموذج مُصغر لمسجد مصنوع في رمضان الماضي، بقربه مُجسم لمغارة الميلاد. تسمّر زكريا أمام مرايات الغرفة "كانت بترسم الورد دة بإيدها وعندي منها في المركز هي اللي عملاه". يد روجينا النشيطة جعلت مُنتجات المدرسة مطلوبة "كان توجيه التربية الفنية بيطلبوا مننا شغل الفريق عشان المعارض، كانت الحاجات بتاعتها وجهة حلوة للمدرسة"، يحكي المدير أنه عندما طلب منها صناعة "عروسة المولد"، أنهتها بصُحبة صديقتها أمل خلال 24 ساعة.
بمجرد أن بدأ حديثه عنها، ارتعشت يد إسلام خالد، مُدرس التربية الرياضية. كانت له سندا؛ شكا لها مرارا أزمات العمل، مُبديا رغبته في الرحيل، فشدت من أزره قائلة: "هتهون عليك العشرة؟.. احنا ما صدقنا لقينا مدرس كويس زيك".
تعاطف خالد دائما مع حوادث الإرهاب ضد المسيحيين، لكنه لم يتخيل أن تقترب منه الفاجعة لهذه الدرجة.
لروجينا بديهيات لم تتخلَ عنها؛ لا حديث في الديانة بين أصدقائها "لو حد بدأ يزود توقفه عشان محدش يزعل من حد"، تدمع عيناها بمجرد رؤية الموت، رآها زكريا تبكي بينما تُشاهد نعوش جنود رفح ذاهبة لمثواها الأخير "وقتها قالتلي إنهم أكيد بيتكرموا عند ربنا.. وأهي راحتلهم".
في كل مراحل حياة زكريا؛ ظلت روجينا حاضرة "كانت رمانة الميزان"، حينما فكر في إنشاء مركز للعلاج الطبيعي منذ عامين شجعته، اقترحت للمكان اسم "خطوة للحياة"، ووقع الاختيار عليه في النهاية "مكنتش أعرف إنها هتكون خطوة للموت".
سيرة روجينا حيّة في ثنايا كل شيء لمسته؛ كذاك المكتب الزجاجي الصغير بالدور الثالث من المدرسة، حيث اعتادت المُدرسة ذات الواحد وأربعين عاما أن تستقر، دفتر الحصص مازال حيث تركته، صورتان لبعض الطلاب عُلقتا على جدار أمام مقعدها، وجه العذراء يُلقي نظرة من نتيجة مُثبتة فوق الحائط.
قبل الحادث بيوم، بعثت روجينا برسالة إلى زكريا "يارب اقترب شهر ميلادك وهناك من فقد ذوية وهناك من يتألم وحروب وعنف وفقر.. يارب فليكن ميلادك نهاية كل حزن وألم". تلقى الصديق الرسالة باسمًا، وكذلك فعلت ياسمين محمد، مُدرسة اللغة العربية، حينما أرسلت لها روجينا، لتهنئها بعيد الأضحى.
مواقف ياسمين مع روجينا لا تُعد. تعملان سويا منذ 16 عامًا "مفيش ولا مرة خذلتني في أي حاجة بطلبها منها". تذكر مُعلمة اللغة العربية، حينما حصل ابنها على المركز الأول في الدراسة "جاتلي وقالت لي مينفعش ينام انهاردة إلا وانتي جايباله هدية"، فما كان من ياسمين إلا أن نفذت رغبة زميلتها الراحلة.
يام تفصل زكريا عن أعياد الميلاد المجيد. يتجلى فيها غياب صديقة عُمره "كنا في الوقت دة بننزل نشتري لبس العيد سوا ومعانا أمل"، اعتادت المُعلمة أن تبتاع لتلاميذها في الفصل بعض الهدايا، بينما مازال زكريا يُفكر في ما سيحدث مع دقات الثانية عشر صباح يوم العيد، إذ كانت أول من يتصل به ليهنئه.
كرّست روجينا حياتها لأسرتها ولم تتزوج "كانت مرتبطة بمامتها جدًا". شعر زكريا ذات مرة بالخوف من فقدان أحد أبويه، سائلا إياها "هنعمل إيه ساعتها يا جي جي؟"، فردت سريعا "لو ماما حصلها حاجة هكون قبلها". امتزجت حياة الرفقاء حتى ذابت الأسر مع بعضها. قبيل الحادث، قابل الوكيل والدة روجينا التي يناديها بـ"طنط سوسو" في المركز "حضتنتي وسلمت عليا بحرارة وقالت لي إنت ابني حبيبي".
في الجنازة الرسمية اتكئ والد روجينا على صديق عُمر ابنته. وقف زكريا بجانبه يتلقى كلمات العزاء من الرئيس عبدالفتاح السيسي والمشاركين، وقتها تجسد الغياب بشكل أكبر، بينما لم تستوعب أمل ما جرى، تقول زكريا "روجينا كانت جنبي لما إخواتي ماتوا. دلوقتي مين يقف جنبي؟".
الجميع يحمل ذكريات مع مُعلمة التربية الفنية؛ عمال، تلاميذ، مدرسون. ذهبوا سويًا السبت قبل الماضي إلى دار الحرس الجمهوري في أول رحلة مدرسية منذ عام 2011، ظلت تلهو وتتقافز مع التلاميذ "ركبت خيل ولعبت كورة وعملت كل اللي نفسها فيه".
منذ أسبوعين كان موعد طلاب الصف الثاني الإعدادي مع حصة الرسم، طلبت منهم "مِس روجينا" رسم فراشة، لم يعرف الطلاب أنه آخر "واجب" يتلقونه من المُعلِمة. وبينما تزداد حُرقة الغياب، يطوف زكريا برفقة أمل الشوارع على مدار اليومين الفائتين، يدوران مرارا حول سكن صديقتهم فينتاب الخواء روحيهما "مش لاقيين حاجة نعملها غير كده، مش عارفين نبقى من غيرها".