محاكمة نجيب محفوظ وأجدادنا والفراشات
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
السبت ١٠ ديسمبر ٢٠١٦
في العام ٢٠١١، خرج علينا المتحدث باسم الدعوة السلفية، السيد عبدالمنعم الشحّات، مناديًا بوجوب تشويه وجوه تماثيل مصر بطبقة من الشمع لأن الحضارة الفرعونية حضارة «عفنة»! ما أن نطق السلفيُّ بتصريحه المشؤوم قام بعض التعساء من أبناء الثقافة السمعية غير البحثية، الناقلة غير العاقلة، بتحقيق «أوامره»، وشرعوا يهدمون التماثيل في كرداسة! وأضاف الرجلُ في تصريح آخر أن «أدب نجيب محفوظ أدبٌ داعر»!! فسار على دربه اليوم أحد النوّاب الذي يخشى على نفسه من «خدش الحياء» وطالب بمعاقبة العملاق نجيب محفوظ في قبره! وقال آخر من الفصيل نفسه «إن الباليه فنُّ العُراة»، فهاتفتني صديقتي الباليرينا وهي تبكي مُتسائلة: «هو احنا لما بنرقص فعلا بنثير غرائز؟» فأخبرتها أنهنّ فراشات نحيلة تثير الدهشة وتدفعنا لتأمل عبقرية خلق الله للجسد البشري حين يحاكي الفراشات في وثباتها بين الزهور.
وبداية أعتذرُ عن المعجم المسفّ الركيك: (عفنة- داعر- عُراة...) فتلك مفردات يتقنها أولئك الذين عيونهن في أماكن أخرى غير أدمغتهم، فحرموا أنفسهم من دهشة وجمال وسموّ الفنون الرفيعة التي تُهذّب الروح وتُنقّي النفس وتنظّف العيون والألسن. فأما حضارتنا المصرية العظمى، فقد انحنت أمامها جباهُ علماء العالم في الهندسة والفلك والعمارة والموسيقى والنحت والطب والفيزياء والكيمياء، فأجبرت العلماء على تدشين عِلم خاص يحمل اسم بلادنا دونًا عن بلاد الدنيا هو: علم «المصريات» Egyptology. ذاك هو إرثنا العظيم الذي حيّر العلماء ودوّخ البشرية. ذلك الميراث الذي جعل العالم، بعد مرور خمسين قرنًا، يلهث وراء مكاتب الطيران ليحظى بزيارة إلى أرض الفراعين الذين أهدوا البشرية كنزًا يفوق الخيال فرادةً وعبقرية وتحضّرًا وجمالاً واكتمالاً! وأما نجيب محفوظ فهو المدرسة الأدبية المصرية الرفيعة التي استحقّ بها نوبل للآداب عام ١٩٨٨. وأما الباليه فهو أسمى الفنون وأرقاها على الإطلاق إذ يجمع بين الموسيقى والرقص والدراما والديكور والملابس والتشكيل والنحت في آن واحد. وكانت من أحلامي أن أنجب طفلة لأعلّمها الباليه وأزهو بها، لكن الله رزقني بطفلين جميلين صارا اليوم شابين رائعين يحبّان الفنون فتهذبت أخلاقهما.
بعد تلك التصريحات المسفّة، قلت في أحد المقال إنها لحظةٌ عابرة، مؤقتةٌ بإذن الله، سوف يذكرها كتابُ التاريخ بابتسامة مقتضبة، بوصفها لحظةً تقفُ عند نهاية مرحلة رجعية ظلامية معتمة من تاريخ مصر، وبداية عصر ممتد من الإشراق والتنوير. لكن تصريحات عضو البرلمان الأخيرة جعلتني أشك في حسن ظني بالزمن والتاريخ.
مصرُ الطيبة قد تسامح في كل ما يمرُّ بها من أهوال وخسائر، لكنها لن تسامح في ضياع قطعة واحدة من كنزها الثمين الذي حافظتْ عليه قرونًا من أجل البشرية، ومن أجل أن يشبَّ أطفالُها المصريون، جيلاً وراء جيل، وعيونُهم مفتوحة على مجد أجدادهم.
ويعيد هذا إلى أذهاننا واقعةَ تحطيم تمثال بوذا على يد طالبان، وواقعة قصف أنف أبي الهول في مصر سنة 780 هجرية، على يد سلفيّ متطرف آخر هو «محمد صائم الدهر»، بدعوى أنه صنم واجب تحطيمه! ولم ينقذ أبا الهول العظيم إلا عاصفةٌ ترابية عنيفة هبّت فجأة، بعد جدع الأنف، جعلت فرائص الرجل ترتعد فولّى الأدبار، وقد ظن أن لعنة الفراعنة قد حلّت!
غضب مثقفو مصر المستنيرون من تصريح الشحّات وقتها، فدافع عن نفسه قائلا إنه مجرد رأي وليست فتوى واجبة النفاذ!! فهل نسي أن «الحرف يقتل»، كما جاء في المسيحية؟! هل نسى أن «كلمةً» غير مسؤولة تشبه تلك التي قالها قتلت فرج فودة وطعنت نجيب محفوظ؟ وهل نسي أن كلمة عابثة كتلك شحنت فتاة منتقبة فحملت مِعولاً وحطمت تماثيل النحات المصري العالمي حسن حشمت؟ وها هي كلمته «العابرة» تلك جعلت شركات السياحة الأجنية وقتها تلغي حجوزاتها لزيارة مصر! فهل سيكفّر السيد الشحات! وأمثاله، عن كلماتهم العابرة بدفع التعويض المادي لأبناء مصر عن تلك الخسائر؟ أقول فقط: «التعويض المادي»، لأنه لا قِبل له بدفع التعويض الأدبي والمعنوي لمصر وأبنائها بنعته حضارة أجدادنا بما لا يليق.
الشحات وأمثاله يتبرأون من الأجداد لأنهم لم يعتنقوا الإسلام! لماذا لم تجد كاهنًا يكفّر الفراعنة لأنهم لا يؤمنون بالمسيح؟ لأن التكفير اختراعُنا الحصري، نحن المسلمون! عجيبٌ خلطُ الأوراق ومحاسبة الفنيّ والحضاري بمقصلة الدين! هل تجوز المحاكمةُ بأثر رجعي لحضارة سبقت أقدم الديانات السماوية بثلاثين قرنًا! هل قرأ الشحات كتاب «العبور إلى النهار»، الشهير بكتاب الموتى، وكتاب «الجبتانا»، المعروف باسم «الأسفار المصرية القديمة»، ليعرف أن جوهر الديانات الثلاثة موجودٌ بين دفتي هذين الكتابين العظيمين؟ وأن أجدادنا الذين يتبرأ منهم الآن، والأحق أنهم يتبرأون منه، قد اجتهدوا ووصلوا إلى جوهر الله الواحد، ورسموا تصورًا محترمًا عن طبيعة الحساب والعقاب والنعيم والجحيم، ووضعوا معايير الفضيلة التي تهيئ الإنسانَ للمثول أمام الذات العليا. وصلوا إلى ذلك قبل الرسالات وقبل الرسل.
أعتذرُ لأجدادي العظام، وأعتذر لنجيب محفوظ، وأعتذر لصديقتي الباليرينا الجميلة وأعتذر لمصر الجميلة أن سمحنا بأن نصل إلى هذا الدرك الأسفل من الوعي والتهذّب، لأننا سمحنا للتعليم أن ينحدر.
نقلا عن المصري اليوم