الأقباط متحدون | البابا "شنودة الثالث" البطريرك الاستثنائي ووريث تاريخ من فنّ التعايش
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٢٣:٠٠ | الأحد ١٦ يناير ٢٠١١ | ٨ طوبة ١٧٢٧ ش | العدد ٢٢٧٨ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

البابا "شنودة الثالث" البطريرك الاستثنائي ووريث تاريخ من فنّ التعايش

الأحد ١٦ يناير ٢٠١١ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: نبيل شرف الدين
"إن مصر ليست مجرد وطن نسكن فيه، بل وطن يسكن فينا".. بهذه العبارة البليغة التي أطلقها البابا "شنودة الثالث" قبل سنوات طويلة خلت، وفَّر الحبر الجليل، والبطريرك الاستثنائي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية كثيرًا من الوقت والكلمات؛ ليقطع بهذا الطريق على لعبة المزايدات السياسية التي باتت تضرب أجواء مجتمعنا المصري، بل وامتدت إلى عموم منطقة الشرق الأوسط المنكوبة بآخر بؤر الاستبداد السياسي والاحتقانات الطائفية والمذهبية والصراعات.

وفي مناخ بالغ التعقيد اختلط فيه الهوس الديني بالسياسي، يصبح العالم أحوج ما يكون إلى حكمة رجل من طراز البابا "شنودة الثالث"، الذي يسبق اسمه لقب "بطريرك الكرازة المرقسية، وبابا الإسكندرية"، وهو أمر يتطلب بعض الإيضاح لغير المهتمين بالشأن الكنسي خاصة، والمسيحي القبطي على نحو عام.

فلقب "بابا الإسكندرية" تعني بطريرك الكنيسة (القبطية) المصرية، فـ"الإسكندرية" كانت عاصمة لـ"مصر" في القرن الأول، كما إنها بُنيت قبل "القاهرة" بثلاثة قرون، فـ"الإسكندر الأكبر" جاء إلى "مصر" عام 320 ميلادية، لذلك سُمّي بابا الكنيسة المصرية "بابا الإسكندرية"، وظلت "الإسكندرية" عاصمة لـ"مصر" عشرة قرون.

وعندما أُنشئت "القاهرة"، أصبح للبابا مقران، الأول في "القاهرة"، والثاني في "الإسكندرية"، وبدأ ذلك في عهد البابا السادس والستين، وأصبح تعبير "بابا الإسكندرية" مصطلحًا تاريخيًا لا يمكن تجاهله.
أما "الكرازة المرقسية"، فتعني باختصار ودون الدخول في تفاصيل، أن المسيحية دخلت "مصر" بكرازة "مار مرقس"، والكرازة تعني التبشير؛ فـ"مار مرقس" بدأ بشارته بالمسيحية في منتصف القرن الأول الميلادي.

والحاصل، أن عهد البابا "شنودة الثالث" كان- ولم يزل- استثنائيًا بكل المعايير، خاصة في ظل تسارع وتيرة الأحداث الطائفية، والمناخ العام الذي يحيط بها، والذي يمكن وصفه بدقة بأنه "مناخ احتقان"، ومظاهر ذلك أكثر مما يتسع لرصده المجال في هذا السياق.

اليتيم
ومن هذا المدخل التاريخي، إلى السيرة الذاتية لأول بطريرك للأقباط يحمل شهادة جامعية، والذي اضطرته الظروف المحيطة بعهده لخوض غمار السياسة من أوسع أبوابها وأضيق خياراتها- ولو بمنطق مجبر أباك لا بطل- فالبابا "شنودة الثالث" هو البطريرك السابع عشر بعد المائة ضمن سلسلة البطاركة الأقباط الذين جلسوا على كرسي "مار مرقس" الرسول بالكنيسة القبطية.

ومازلنا مع السيرة الذاتية للبطريرك الاستثنائي في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فهو من مواليد يوم الثالث من أغسطس عام 1923 في قرية "سلام" التابعة لمحافظة "أسيوط" جنوب "مصر"، لأسرة من الطبقة الوسطى، وذاق طعم اليتم مع يوم مولده، إذ توفيت والدته عقب ولادته مباشرة متأثرة بحمى النفاس.

البابا "شنودة الثالث" يتحدث عن مشكلات الأقباط في "مصر".. الجزء الأول

واختصر البابا "شنودة" السنوات الدراسية، والتي كان يطلق عليها التمهيدي في عام واحد. ثم أمضى عامًا آخر في المرحلة الابتدائية، مع إخوته في "الإسكندرية"، ولكنه قضى السنة النهائية وهي الرابعة الابتدائية في "أسيوط"، ولم يحصل على الشهادة الابتدائية إلا متأخرًا لانخراطه في الدراسة الإكليريكية، وكان هذا المدخل الديني الأول للبابا "شنودة الثالث"، كما تقول سيرته الذاتية الرسمية.

الضابط
والتحق البابا "شنودة الثالث" في المرحلة الثانوية في البداية بالقسم العلمي؛ أملاً في أن يكون طبيبًا، لكنه اكتشف في نفسه أنه لا يقوى على مشاهدة طبيب يوقِّع الكشف على أحد من دون أن يتألم، ولهذا انتقل في منتصف العام إلى القسم الأدبي، والتحق بجامعة "فؤاد الأول"- القاهرة حاليًا- في قسم التاريخ، وبدأ بدراسة التاريخ الفرعوني والإسلامي والتاريخ الحديث، وحصل على الليسانس. وفي السنة النهائية بكلية الآداب، التحق بالكلية الإكليريكية "القسم الليلي"، وكان قبوله استثنائيًا؛ لأن الانتساب وقتها كان مشروطًا بالتخرج من الجامعة، ولم يكن قد تخرَّج بعد، ولكنه تعهَّد لإدارة الكلية بتقديم الليسانس قبل نهاية العام الدراسي الإكليركي الأول.

وكان الرجل عند وعده، فقد تخرَّج من الجامعة في يونيو، وتقدَّم في نفس العام لامتحان نهاية العام الإكليريكي في شهر سبتمبر. وبذلك اختصر عامًا دراسيًا كاملاً، وفي الوقت نفسه كان يعمل معلمًا للغة العربية في مدرسة إكليريكية ثانوية، ومعلمًا للغة الانجليزية بمدرسة إبتدائية، وكاتبًا في مجلة "مدارس الأحد". وقد تخرَّج من الجامعة عام 1947 بتقدير امتياز.

ثم تخرَّج "نظير جيد" أو "البابا شنودة الثالث" لاحقًا، بعد ذلك بثلاث سنوات في الكلية الإكليريكية، وكان ترتيبه الأول. ثم التحق بالقوات المسلحة لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وذلك أثناء دراسته في كلية الآداب، وبقي في سلك المتطوعين لنحو ثلاث سنوات، وكان من أوائل الخريجين في ضباط مدرسة المشاة، برتبة "ملازم ثان"، رُقِّي بعدها إلى رتبة عسكرية أرفع.

الراهب
وفي العام 1954، استقال البابا "شنودة الثالث" من كافة أعماله، وذهب إلى دير "السوريان" بـ"وادي النطرون" (شمال غرب مصر)، حيث تم رسامته راهبًا باسم "أنطونيوس السرياني" في 18 يوليو 1954، ولم يغادر "وادي النطرون" مدة عشر سنوات (1963)؛ حيث اختار مغارة في الصحراء عكف فيها على القراءة ونسخ المخطوطات الأثرية القديمة، واختاره البابا "كيرلس السادس" سكرتيرًا خاصًا له؛ لثقته الكبيرة به، ثم رسمه أسقفًا عامًا للتعليم في أيلول (سبتمبر) 1962، وكان حينها رافضًا أن يُرسم أسقفًا؛ فأمسكه البابا "كيرلس" من رأسه ورسمه. وعندما توفي البابا "كيرلس" في 9 مارس 1971، أُجريت انتخابات البابا الجديد في 13 أكتوبر 1971 بالكاتدرائية المرقسية.

البابا "شنودة الثالث" يتحدث عن مشكلات الأقباط في "مصر".. الجزء الثاني

حدث ذلك بعد أن تمّ اختيار ثلاثة من المرشَّحين الخمسة للكرسي البابوي، ووقع الخيار على البابا "شنودة الثالث"، ولم يكن اسم البابا "شنودة" جديدًا على البطاركة، فقد سبقه البابا "شنودة" الأول- وكان البابا الـ 55- أما البابا "شنودة الثاني"- فكان البابا الـ 65 في تاريخ البطاركة- وكان البابا "شنودة الثالث" قد عاد إلى "القاهرة" في نفس اليوم الذي تمّ اختياره فيه بابا للأقباط، وكان في صحبته الأنبا "أنطونيوس" قائمقام البطريرك- والأنبا "صموئيل"- أسقف الخدمات- والأنبا "دوماديوس"- أسقف الجيزة- وأدَّى الجميع صلاة شكر بكنيسة "مار جرجرس" بـ"الجيزة"، ثم توجهوا بعد ذلك إلى الكاتدرائية المرقسية الكبرى.

السياسي
كان المشهد بالغ التأثير.. سيارة سوداء ماركة "مرسيدس"، تسبقها وتتبعها عشرات السيارات التي مازالت تتناثر منها حبات رمال الطريق الصحراوي الممتد بين "القاهرة" و"الإسكندرية"، حيث تقع الأديرة الشهيرة التي كان البابا "شنودة" موضوعًا رهن الإقامة الجبرية في إحداها، بعد صدور قرار الرئيس المصري الراحل "أنور السادات" بتحديد إقامته بها، في أعقاب توتُّر العلاقة بينه وبين البطريرك الذي لم يكن مثل سابقيه من البطاركة مجرد رجل "بركات ورحمات"، بل كان سياسيًا محنَّكًا، وممثلاً لجيل جديد من الكهنة الذين تخرَّجوا في الجامعات، ويتقنون اللغات الأجنبية، ويدلون بدلوهم في كل شأن سواء كان دينيًا أو سياسيًا.

كان قد مرَّ أربعون شهرًا على تحديد إقامة بطريرك الأقباط في الدير، قبل أن يلغي الرئيس المصري الحالي "حسني مبارك" هذا القرار؛ ليعود البابا "شنودة" إلى مقر البطريركية في أشهر شوارع "مصر"- شارع رمسيس- ليجد في انتظاره عشرات الآلاف من أبنائه، في مشهد يذكِّر بما حدث مع القديس "أثناسيوس".

ويقودنا هذا المشهد إلى علاقة البابا "شنودة" بالرئيس "السادات" التي كانت في بدايتها طيبة، ولكن كان "السادات" حينئذ قد أطلق مارد الجماعات الإسلامية المتطرِّفة من قمقمه، وتنامى نفوذ تلك الجماعات في كل أنحاء "مصر"، وتكرَّرت اعتداءاتهم علي المصريين جميعًا مسلمين ومسيحيين، وحرقوا محلات المجوهرات المملوكة للمسيحيين، وتعرَّضوا لهم على نحو سافر. الأمر الذي دفع البابا "شنودة" للإحتجاج علنًا، وكان رد فعل "السادات" أن أصدر قرارًا جمهوريًا بعزل البابا وتحديد إقامته في دير الأنبا "بيشوي"، واعتقال ثمانية أساقفة، وشخصيات مسيحية علمانية، وإيقاف "مجلة الكرازة" وصحيفة "وطني".

خطاب الرئيس "السادات" الذي أعلن فيه عزل البابا "شنودة الثالث"

يقول البابا "شنودة" في مقابلة صحافية أُجريت معه بعد تلك الأحداث بأعوام: إنه على الرغم من الإبعاد 40 شهرًا، إلا أنه نظر للنفي باعتباره فرصة استجمام روحي، وكتب (16) كتابًا في ذلك الوقت، وبعد صدور قراره بشهر، قُتل "السادات" بأيدي نفس الجماعات المتطرِّفة. وبعد ثلاث سنوات ونصف، قام الرئيس "حسني مبارك" برفع "تحديد الإقامة" عن البابا.

وصل البطريرك إلى مقره حيث أدى صلاة الشكر، ثم حيّا رعيته بهذه الكلمات: "ليس لي سكن إلا في قلوبكم الممتلئة حبًا، إنني لم أكن بعيدًا عنكم ولو لطرفة عين". ومضى قائلاً: "إني أود أن أفعل ما في وسعي لتعميق المحبة والسلام والصلح بين الكنيسة والدولة، وإخواننا المسلمين، فنحن أعضاء في الجسم الواحد الذي هو مصر، والتي هي ليست وطنا نسكن فيه، بل وطن يسكن فينا".

الربّان
الآن، وبعد مرور عقود على هذه الأحداث الجسام، قاد البابا "شنودة" خلالها سفينة الكنيسة القبطية بحكمة مصري تناوبت عليه المحن منذ قرون، ومازال قابضًا على روحه الإنسانية، متسامحًا دون إدعاء. ولا أنسى إنني سألت "سيدنا البابا" ذات مرة التقيته، عن مغزى التسامح مع الذين يسيئون لنا؛ فابتسم قائلاً: وهل هناك محكّ لقيمة التسامح مع غير المسيئين؟، وأضاف: إننا بالتأكيد لا نتسامح مع الأحبة والأصدقاء؛ لأنهم بطبيعة الحال لا يسيئون لنا. وتعلَّمت من الرجل هذه الحكمة البليغة على بساطتها كشخصه وشخصيته.
الآن صار للكنيسة القبطية أكثر من مئة وخمسين كنيسة في "أميركا"، وسبعين في "كندا"، ونحو خمسين كنيسة في أوروبا، وخمس وعشرين في دول أخرى، ومئات المدارس في المهجر، فضلاً عن ازدهار غير مسبوق لكنائس الداخل في "مصر".

لقاء نادر جمع بين البابا "شنودة" والأب "متى المسكين" عام 1996

"نظير جيد" أو "البابا شنودة".. هذا اليتيم الذي حمل البندقية دفاعًا عن بلاده قبل أن يحمل صليبه ليصبح الحبر الجليل، والراهب الزاهد، والمصلح الديمقراطي، والفلاح الحكيم، وربما يقتضي الأمر أطنانًا من الكلمات والصفات حتى نعبر عن بعض من شخصية دينية عالمية رفيعة، ونختصر سيرة راهب متواضع تبوأ أرفع المناصب من غير أن يسعى إليها يومًا، بل قُدِّمت إليه بفضل حكمته الحقيقية التي لا يشوبها إدِّعاء.. وثقافته الموسوعية.. والأهم من كل هذا إنسانيته الحقيقية.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :