أبحث عن مصر الجميلة.. فلا أجدها
مقالات مختارة | محمود الكردوسى
الاربعاء ٣٠ نوفمبر ٢٠١٦
(1)
شادية بـ«الأبيض والأسود»، فى العصر الذهبى لـ«حلاوة» الشكل والمحتوى، تتغزل فى «شلاضيم» حبيبها، إسماعيل ياسين، وكتفيه الآيلين للسقوط، ووجهه الذى يشبه رغيفاً نيئاً نبشته «كتاكيتو بنى»: «عاجبانى وحاشته». لماذا أعجبتها «وحاشته»؟. لأن وراء «وحاشة الشكل» نفوساً راضية، وقلوباً طيبة، محبة، وعالماً متزناً، متآلفاً، تحكمه رؤوس كبيرة وتقاليد صارمة. كان الباشا «ممتلئاً» حتى إذا جاع، وكان الفقير «زاهداً» حتى إذا أُتخِم، وإذا تقاطعا وقع زلزال ورُويت قصص وأفلام، ثم عاد كل منهما إلى موقعه. كانت البيوت والقصور تتعاقب: البيوت آمنة، تنام من المغرب.. والقصور صاخبة، تنام بعد الفجر. كان هناك ثوار وليبراليون وشيوعيون وإخوان ومثقفون وفنانون.. كلٌ فى مكانه. وكانت هناك جوامع وكنائس ومعابد وأضرحة. كان الدين لله والوطن للجميع، وكل الطرق تؤدى إلى الجنة.. فما الذى جرى؟.
(2)
كل ما حولنا يشبه شيئاً «حقيقياً»، وكل من حولنا يشبهون أشخاصاً «حقيقيين»:
البنت الجميلة فخ، والمحترمة معقدة، والمتفتحة صيد سهل. صاحب الفيلا «حرامى»، وسارقها روح بائسة تحوم حول جيفة. كثرة الفلوس فائض قوة، وقلّتها كنز لا يفنى. الحب قِلّة حيا (أو قِلّة حيلة)، والزواج صفقة خاسرة. ابتسامة الوجه جرح، والطيبة ورم فى عضلة القلب. السلطة مَفسدة مطلقة، والمعارضة مقعد ثابت على مائدة الحكم. الصحف سلالم خدم، والفضائيات هواء ملوث، والإنترنت لعب عيال. الأفلام الواقعية «إساءة»، والرومانسية سذاجة، والكوميدية تفاهة، و«الأكشن» تقليد أعمى. اللوحة شخبطة والقصة «شأن داخلى» والقصيدة لؤلؤة فى قعر بئر. الكرة سياسة والسياسة نجاسة. المساجد منابر تحريض، والكنائس معسكرات تدريب، والدين «عِدّة نصب». الحرية عبء، والديمقراطية ترف، والتغيير مخاطرة، والوطن زهر طاولة يروح ويجىء بين تاجرين.
(3)
كلنا عابرون.. وكل الكلام عابر:
تركب مع سائق التاكسى: «شكله مباحث». تذهب لشراء فاكهة: الأسعار تتحرك وأنت واقف مكانك. بطيخك ماسخ وعنبك مُرّ وتينك «حمضان» ومشمشك «مليان دود». تمد يدك للمكوجى بعشرة جنيهات: «الدولار وصل 20 جنيه.. كل سنة وانت طيب يا باشا»!. تذهب إلى الحلاق وأنت «لمبى»، فتخرج من تحت يديه «رياض البنطلونى». تنام إلى جوار زوجتك آخر الليل وتناغشها: «التلاجة فضيت». تحب «من غير أمل»: قلبك مات. تذهب إلى السينما: تنام من التعب. تسمع أم كلثوم: تزهق من طول الأغنية. تفتح الإنترنت: «اتربيت غلط». تقرأ الصحف القومية: أنت فى السويد. تقرأ الحزبية: «فيها لأخفيها». تقرأ المستقلة: مصر رايحة فى تسعين مليون داهية. تذهب إلى سوبر ماركت: نعيش لنأكل. تذهب إلى «بطن البقرة»: لا نعيش ولا نأكل!.
(4)
ثم.. ما كل هذه «الجثث والأشلاء» التى تُلقَى فى وجوهنا باسم الإسلام، كأننا نُرجَم لذنبٍ لم نرتكبه؟. ما كل هذه «الدماء» التى «تطرطش» على ثيابنا، إن كان بقى على أجسامنا ثياب؟. ما كل هذا «الموت» الذى يطل علينا: أحياناً من العراق وسوريا وليبيا واليمن وغزة، وأحياناً ينفجر فى وجوهنا من عفن العشوائيات وبطون الجبال وعتمة القرى والنجوع، كأن الله خبأ غضبه العظيم فى صورتنا الأولى!.
من صنع كل هذا؟. من أين بدأ.. وإلامَ سينتهى؟.
هل كتب الله على بلد نص عليه فى كتابه العزيز ألا ينهض أو تقوم له قائمة، وأن يجوع ليأكل الآخرون بشرفهم؟. هل كُتِبَ على هذا الشعب المسالم ألا يهنأ بهدنة فى حربه الطويلة والمريرة ضد الفقر والظلم والجهل والتخلف، وأن يقضى ما بقى من العمر ذليلاً، أسيراً لـ«أهميته الاستراتيجية» و«ثقله الحضارى»؟.
من صنع كل هذا فى أمةٍ آمنت قبل غيرها بأن «لا إله إلا الله»؟. كيف أصبحت «لا إله إلا الله» راية قتل وإرهاب وتكفير بعد أن كانت كلمة سر المسلمين فى عبورهم إلى الجنة؟. كيف تسللت هذه الأيقونة المقدسة من القلوب المتخمة بنور الإيمان إلى سواد أعلام «داعش والقاعدة»؟. أى إسلامٍ هذا، وكم «إسلاماً»، وأيها مصداقٌ لقول الحق فى كتابه العزيز: «إن الدين عند الله الإسلام»؟.
لماذا خص الله مصر بكل هذه المحن والمصائب؟. لماذا يبدو وكأن عبقريتها لعنة؟. لماذا يتناقض حالها مع كل ما وُصفت به؟. لماذا قيل «بلد السلام» وهى تخرج من حرب لتدخل أخرى!. لماذا قيل «بلد الأمن والأمان» وهى دائماً مهددة، مستهدفة!. لماذا قيل «بلد العلم والإيمان» والناس يموتون فيها على جهلهم، ويقتل بعضهم بعضاً باسم الدين!. لماذا قيل «بلد الحب» وشجر الكراهية يطرح جثثاً نيئة؟.
(5)
أبحث أحياناً عن مصر فلا أجدها:
أبحث عن مصر الجميلة فلا أرى إلا قبحاً وشراً وابتذالاً وفوضى. أبحث عنها فأراها «تردح» وتشتم وتبتذل نفسها. أراها تراوح بين رذيلتين: الكسل والغطرسة. أراها خائفة، مترددة، مصدومة فيما جرى، قلقة مما سيأتى. أراها منهكة، محبطة، «ريقها ناشف» من كثرة الهتاف والجرى وراء الشعارات. أراها ممزقة: كل جبهاتها مفتوحة فى وقت واحد. أراها موكباً للدجالين وتجار الثورات، تلاحقه حشود أبرياء غافلين كسُحُب غبار. أبحث فى السياسة عن «يقين» فلا أجد. أبحث فى الدين عن «تفسير» فلا أجد. أبحث فى العلم عن «معادلة» فلا أجد. أبحث فى الخيال عن «نص» فلا أجد!. لكن مصر هكذا. خلقها الله هكذا.. فاصبر عليها.
(6)
مصر بلد كبير وجميل وحمّال أسية، والضربة التى لا تقتله.. تقويك. مصر هزمت كل خصومها ونضجت وأنت باقٍ، يقظ، لم تفقد حبك لها وكرهك لأعدائها. مصر ليست بلداً تافهاً أو عابراً. مصر التى أنجبت طابوراً من الرواد لا يمكن أن تكون بلا قيمة. مصر التى اخترعت إسلامها ومسيحيتها لا يمكن أن تكون بلا قيمة. مصر التى كانت أول من بنى وخاض حرباً ومد جسراً للسلام لا يمكن أن تكون بلا قيمة. مصر التى خلقها الله ضفتى نهر، وبسط صحراءها قبراً لكل من دخلها بغير استئذان، لا يمكن أن تكون بلا قيمة. مصر التى تحمل على كتفيها تسعين مليوناً لتغيظ خصومها بـ«عزوتها» وتزهو أمامهم بخصوبتها، لا يمكن أن تكون بلا قيمة. مصر التى علّمت البشر كيف يحبون بكعكة سميط وقرطاس كمون، وكيف يغنون وهم مهزومون، ويبكون فى أشد حالاتهم فرحاً، لا يمكن أن تكون بلا قيمة.
(7)
لا تصدق أن مصر ماتت إكلينيكياً.
مصر بـ«سبع أرواح». من احتلال إلى طغيان، ومن مجاعة إلى وباء، ومن عدوان إلى مؤامرة: «الزمن شاب وإنتى شابة.. هُوّ رايح وإنتى جاية».
نقلا عن الوطن