الأكراد شرطي للمنطقة في ظل صراع سعودي ايراني على القيادة ومسعى لتهميش الدور المصري
ميشيل حنا حاج
٢٧:
٠٩
ص +02:00 EET
الاثنين ٢١ نوفمبر ٢٠١٦
ميشيل حنا الحاج
في ستينات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة اضافة الى اعتمادها على اسرائيل، تصنف ايران كشرطي للمنطقة يعمل باسمها لحماية وضمان مصالحها في الشرق الأوسط. وفعلا تدخلت ايران عسكريا لتحسم تمردا وقع في سلطنة عمان، قادته الحركة الماركسية في اليمن الجنوبي، في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وتبلور ذاك الدور الايراني بعد ظهور الحركة الناصرية في مصر وبروز جمهورية مصر قائدة للعالم العربي، بل ولمنطقة الشرق الأوسط، استنادا لكونها الدولة الأكثر تقدما، والأكبر جغرافيا وديموغرافيا، الأمر الذي عززه أيضا الدور القيادي لزعيمها الرئيس جمال عبد الناصر الذي باتت الشعوب العربية (وليس شعب مصر فحسب)، تبني آمالا كبارا عليه وعلى حنكته في القيادة، وفي التعامل مع العدو المشترك أي أميركا واسرائيل، وخصوصا بعد تأميمه قناة السويس، وتخليه عن اعتماد مصر على الولايات المتحدة والدول الغربية في تسليح الجيش المصري.
ولكن سرعان ما أخذت المملكة العربية السعودية منذ بداية ستينات القرن الماضي، تطرح نفسها كمنافس لمصر على موقع القيادة، وذلك باعتبارها الدولة الأقوى ماليا والأكثر ثراء، وبالتالي قدرة على مساعدة بعض دولها ماليا، خلافا لمصر الفقيرة والتي تعاني من مشاكل اقتصادية ناجمة في أحد أسبابها، عن التكاثر السريع لعدد سكانها. ومن أجل اضعاف مصر، استنزفتها في حرب اليمن بتقديم الدعم المالي والعسكري والتسليحي للامام البدر الذي اعتصم بالجبال اليمنية المحاذية للحدود السعودية، مما شكل أحد العوامل اضافة الى عوامل أخرى، أفرزت مجتمعة الهزيمة العسكرية التي لحقت بمصر عام 1967، وأدت الى تراجع دورها كقائدة للعالم العربي.
أدى الى تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية، والى نقل مقر الجامعة من القاهرة الى تونس، تعزز الدور السعودي في قيادة المنطقة بغياب مصر، وظهور الضعف التدريجي على الموقع الايراني، بعد انتصار الثورة الاسلامية في طهران عام 1979، وبروزها كما وصف من قبل الأميركيين، كعدو لدول المنطقة وخصوصا لدول الجوار. ففي هذه المرحلة، ومع غياب مصر عن الساحة السياسية، بات الموقف في المنطقة يتبلور كصراع تنافسي بين السعودية وايران، سرعان ما تحول الى صراع تناحري بينهما، خصوصا بعد تجميد أي دور للعراق منذ حرب 1991، وما تلاه من الغاء كامل للدور العراقي بعد غزو أميركا له في عام 2003.
وتمثل بلوغ الصراع بينهما مرحلة الصراع التناحري، بالحروب التي نشبت في كل من سوريا واليمن، وقبلها بين العراق وايران بتشجيع سعودي اميركي. فالسعودية التي كانت الى مرحلة ما تكتفي بالقيادة السياسية، مستعينة بقوة أموال النفط لتحقيق انجازات ما، شرعت الآن في اللجوء الى القوة العسكرية عبر تحالفات عسكرية، باسم التحالف العربي تارة، والتحالف الاسلامي تارة أخرى. وكان المطلوب من دول الجوار المشاركة فيها، نتيجة املاءات تأخذ نهج اغراءات البعض بالمال، والاستغاثة بروح الأخوة والمصالح المشتركة كما في حال دول الخليج التي ليست بحاجة الى المال.
وكان المطلوب من مصر أن تشارك في هذه التحالفات مشاركة صاغرة، دون حق لها في ابداء الرأي والمشورة حول ما هو صحيح وضروري وقانوني، الأمر الذي لم ترض به مصر لأسباب عديدة، ومنها رفضها لتهميش دورها في المنطقة، وتحويلها من دولة قائدة كانت قد استعادته لنفسها بعد المتغيرات السياسية فيها، الى مجرد دولة تابعة.
ففي ظل هذا الصراع الدامي التناحري في المنطقة، وانشغال السعودية بصراعها مع ايران، أغمضت العيون عن الخطر الحقيقي الذي بات يداهم المنطقة، وهو الخطر الكردي الذي بدأ يطرح نفسه بدعم أميركي واضح، كقوة عسكرية آخذة في البروز والتبلور، وتسعى تلعب مستقبلا دور الشرطي الجديد في المنطقة، مع اشادة أميركية متكررة بشجاعة الأكراد وقدراتهم القتالية الناجحة.
الود الأميركي المتميز للأكراد
وبرزت المساندة الأميركية للأكراد والتي كانت سرية وصامتة حتى غزو الولايات المتحدة للعراق، لتتبلور تدريجيا كمساندة علنية، وبوضوح ساطع لا يمكن نفيه، خصوصا منذ سيطرت الدولة الاسلامية على ثلاث محافطات كبرى في شمال العراق، وهي المحافظات المجاورة لكردستان.
ففي أوائل حزيران 2014، سجلت الأقمار الصناعية الأميركية ووسائل مخابراتها، وجود موكب مسلح كبير يتحرك نحو شمال العراق، ويدل حجمه على نواياه لخوض معركة عسكرية كبرى. لكنها رغم ذلك، ورغم قيام الرئيس أوباما باعلان الحرب على الدولة الاسلامية قبل أيام قليلة، وهو الاعلان الذي ورد في خطاب له في كلية وست بوينت العسكرية في 28 أيار 2014 ، لم تفعل الولايات المتحدة شيئا لايقاف ذاك الموكب أو لقصفه وتأخيره. وهكذا واصل سيره في خطى مطمئنة، حتى سيطر في العاشر من حزيران، على ثلاث محافظات عراقية رئيسية هي صلاح الدين وعاصمتها تكريت، والتأميم وعاصمتها كركوك، ونينوى وعاصمتها الموصل.
ولكن المفارقة الغريبة التي حصلت، تمثلت بالتحرك الأميركي الفجائي السريع والقوي، عندما باشرت هذه القوات الداعشية في التحرك نحو اربيل عاصمة اقليم كردستان، وشرعت في محاصرتها. اذ تنطحت الطائرات الأميركية فورا للاغارة عليها، وللحيلولة بينها وبين السيطرة على المحافظة الكردية. بل وسرعان ما ساعدت بيشمركة الأكراد أيضا على استعادة السيطرة على كركوك، الموقع النفطي الهام والذي طالما اعتبره الأكراد، رغم هويته العراقية الرسمية واختلاط السكان فيه (عرب، كرد وتركمان)، جزءا لا يتجزأ من كردستان. فالولايات الأميركية المتحدة في هذه الحالة، لم تساعد الأكراد فحسب على طرد الدولة الاسلامية من كركوك والحلول محلهم، بل ساعدت البيشمركة أيضا على تكريس كركوك النفطية، كمنطقة كردية بعد أن كانت بموجب المادة 140 في الدستور العراقي، موضع تفاوض بين الحكومة المركزية العراقية وادارة اقليم كردستان.
وتأكد لاحقا أن المخطط الأميركي الداعم للأكراد، لا يتوقف على أكراد العراق فحسب، اذ امتدت الحماية الأميركية لتشمل الأكراد في سوريا، والتي تمثلت في تنفيذ اغارات جوية مكثفة على قوات الدولة الاسلامية التي حاصرت مدينة عين العرب (كوباني) ذات الأكثرية الكردية بسكانها، والواقعة في شمال سوريا. فالاغارات الأميركية المكثفة قد نشطت فجأة للحيلولة دون سقوطها في أيدي مقاتلي الدولة الاسلامية الذين حاصروها لمدة شهر أو أكثر دون جدوى. ولم تكتف الطائرات الأميركية عندئذ بالاغارات الكثيفة على قوات الدولة الاسلامية التي تحاصرها، بل لجأت أيضا لاستخدام سلاح الجو الأميركي، لالقاء الذخيرة والسلاح والدواء للأكراد المحاصرين، عندما رفضت تركيا أردوغان التعاون معها في مجال ايصال المساعدات للمحاصرين برا عبر أراضيها.
وتتالت تدريجيا معالم التمييز في السلوك الأميركي لدى معالجتها للأخطار التي تمثلها وتشعلها الدولة الاسلامية، كلما تعلق الأمر بأخطار تهدد الأكراد في كل من العراق وسوريا. ومن أجل ذلك قاتلت الى جانب البيشمركة في عملية تحرير الأكراد والأزيديين المحاصرين في جبل سنجار وفي قرى أخرى محيطة بذاك الجبل، الى أن حررتها من الهيمنة الداعشية مع بدايات عام 2015.
ولكن في عام 2016، برز الدعم الأميركي أكثر وضوحا وتخطيطا، بظهور جيش سوريا الدمقراطي المكون من عناصر كردية في غالبيته. وشرع هذا الجيش المدرب أميركيا، والمسلح أميركيا، والذي يقوده خبراء أميركيون، في عملية تحرير شمال سوريا ذو الغالبية الكردية في قرى عديدة من قراه، من هيمنة الدولة الاسلامية. وبلغ الأمر أن تمكن هذا الجيش الناشىء من تحرير مدينة منبج، الموقع الاستراتيجي، بعد معركة دامية وطويلة استغرقت أكثر من شهر.
وبعد أن استقر الأمر نوعا ما لجيش سوريا الدمقراطي في شمال سوريا، ورغم شروع تركيا بعملية درع الفرات في الشمال السوري وما انطوت عليه من أخطار، توجهت قواته الآن لمحاصرة وعزل مدينة الرقة (ذات الغالبية العربية في سكانها) الواقعة تحت هيمنة الدولة الاسلامية. ولكن نواياه تكشفت تدريجيا ومفادها بأن جيش سوريا الدمقراطي لا يسعى فحسب لعزل المدينة، بل لتحريرها أيضا من هيمنة الدولة الاسلامية، لا رغبة فقط في طرد الدولة الاسلامية من موقع سوري هام، بل لضم تلك المدينة، كما قدرت الحكومة السورية، الى الرقعة الكردية المخطط لانشائها كاقليم كردستان السوري، رغم كون غالبية سكان تلك المدينة من العنصر العربي. فجيش سوريا الدمقراطي، في ظل انشغال الدولة السورية بمعركة حلب، وبالتالي عجزها عن المشاركة مؤقتا في عملية تحرير الرقة المؤجلة معركتها في المخططات السورية لزمن آخر قادم، يسعى لاستعجال تلك المعركة في ظل الانشغال السوري عنها، كاشفا فجأة بأن عدد قواته التي أعتقد لوهلة بأنها مجرد قوة صغيرة هدفها حماية الأكراد لا أكثر، قد بلغ الأن عدد أفراده ثلاثين ألف مقاتل.
وعزز هذا وذاك، تطور آخر يرجح التوجه لايجاد كيان كردي يستمد قوته وشرعية وجوده من الجانب الأميركي، قيام البيشمركة مؤخرا بتدمير مئات المنازل لسكان عرب يقيمون في كركوك وفي قرى قريبة من الموصل. وعززه أيضا رفض الأكراد الانسحاب من القرى والمناطق التي سيطروا عليها وتقع ضمن حدود محافظة الموصل الادارية، وذلك رغم وجود اتفاق سابق بين حيدر العبادي رئيس وزاء العراق، ومسعود البرازاني رئيس اقليم كردستان، على مشاركة قوات البيشمركة في معركة "قادمون يا نينوى"، على ان تنسحب الى مواقع تواجدها السابقة بعد تحريرها لأية مساحات في محافظة الموصل. وكرر حيدر العبادي مؤخرا تأكيد وجود هذا الاتفاق، في وقت أكد فيه رشدي الكاشف - مراسل بي بي سي، بأنه على أرض الواقع، توجد نقاط تفتيش متقابلة في الشمال العراقي، كردية وعراقية، لا يفصل بينهما الا مائة متر، مما يوحي بأنك كأنك تتنقل من دولة الى أخرى. ويعزز ذلك تصريح لكفاح محمود، المستشار السياسي لمسعود برازاني حول مدى استعداد الأكراد للانسحاب من المناطق التي حرروها بقوله: "وهل ينسحب الانسان من بيته؟"، مما يعزز التوجه لانشاء كيان كردي أكثر توسعا واستقلالا، يعززه استعدادات مسعود برازاني - رئيس الاقليم ورئيس الحزب الدمقراطي الكردي، لاجراء استفتاء حول اعلان كردستان العراق، دولة مستقلة، رغم وجود تحفظات حول نهج الحصول على الاستقلال والتوجه للتعاون مع أميركا، لدى الحزب الكردي القوي الآخر، وهو الحزب الوطني الكرستاني (حزب يساري علماني) الذي لا يعارض التوجه الكردي نحو الاستقلال، لكنه يعارض فرض الهيمنة الأميركية على كردستان المستقبل. كل ما في الأمر، أن هذا الحزب قد ضعف نشاطه مؤخرا بسبب اصابة زعيمه جلال طالباني بمرض الزمه الفراش في مدينة السليمانية.
وتدعي الولايات المتحدة بأنها قد ساهمت في تأسيس وتدريب وتسليح جيش سوريا الدمقراطي الموازي لقوات البيشمركة في شمال العراق، ليكون بديلا لجيش سوريا الحر الذي بنت عليه الآمال ليتولى السلطة بديلا عن الحكومة الحالية القائمة. لكن هذا الجيش تفكك وتبخر تدريجيا عن الوجود، مع أنه تبين لاحقا أنه لم يتبخر تماما، فهو متواجد في تركيا، الأمر الذي كشفه التدخل التركي الأخير في شمال سوريا، والمناهض في ظاهره للدولة الاسلامية، وفي باطنه لتنامي القوة الكردية في شمال سوريا. فالقوات الأرضية التي شاركت بعملية درع الفرات، كانت مكونة من مقاتلين منتمين لجيش سوريا الحر الذي أخذت تركيا ترعاه اضافة لرعايتها للجبهة الشامية، ولبعض الكتائب التي تضم تركمان سوريا وآخرين يرجح بأنهم جنود أتراك ببزات أخرى، وجميعها تقاتل الآن في شرق حلب.
وكان جيش سوريا الحر قد أخذ يواجه حركة ملموسة تتجه للتفكك والتلاشي، اثر معركة جرت في 27 أيلول 2013 في مدينة أعزاز الحدودية مع تركيا، والتي وقعت بين لواء الشمال، من ألوية جيش سوريا الحر ويقوده حاجي مارا، ومقاتلي قوات داعش التي كانت عندئذ ما تزال تسمى بداعش. واستطاعت القوات الداعشية طرد الجيش السوري الحر من مدينة أعزاز، مما اضطر حاجي مارا للاستغاثة بلواء التوحيد، لواء آخر من ألوية الجيش السوري الحر ويقوده عبد العزيز سلامة. ولكن عبد العزيز سلامة الذي عجز عن تقديم العون (لأسباب مجهولة) لرفيقه في السلاح، أي للواء الشمال، بادر في اليوم التالي الى عقد مؤتمر صحفي غاضب، أعلن فيه تمرده على الائتلاف السوري المعارض بقيادة أحمد الجربا (كما كان الأمر آنئذ)، معلنا عن تشكيل تجمع جديد معارض مواز، من الموقعين على البيان رقم واحد، كما سماه عبد العزيز سلامة، وعددهم اثنا عشر فريقا آخر بينهم ما بات يعرف لاحقا بجيش الاسلام، وأحرار الشام، ولوائين آخرين من ألوية جيش سوريا الحر أحدهما كان لواء الصقور، مما أدى عمليا الى انفصال ثلاثة ألوية من ألوية جيش سوريا الحر عن قيادتهم المركزية، سرعان ما تبعتها ألوية أخرى انضم بعضها الى جيش الاسلام، والبعض الآخر لجبهة النصرة أو لأحرار الشام. وربما لم تسلم عملية تفككه تلك من بصمات تركية وأميركية، تمهيدا لنوايا أميركية مبيتة تخطط لتشكيل الجيش البديل، كامل الولاء لها، وهو جيش سوريا الدمقراطي.
وبدأ جيش سوريا الدمقراطي فور ظهوره العلني، بتطهير الشمال السوري من مقاتلي الدولة الاسلامية كما سبق وذكرت باعتبار ذلك مهمته الأساسية، فحررا العديد من القرى والمدن السورية من هيمنتهم بما فيها مدينة منبج الاستراتيجية. ولكنهم اضطروا للتوقف (مؤقتا كما قيل) بعد شروع تركيا بتنفيذ عملية درع الفرات الساعية لاخراج الأكراد المتحالفين مع أكراد تركيا، اي ال PKK من مواقعها، مع الكشف عن نوايا تركيا في المضي قدما في زحف قواتها حتى تحريرهم مدينة الباب الحدودية من مقاتلي الدولة الاسلامية، بغية اقفال حدودها (كما تقول تركيا)، في وجه تنقل مقاتليهم عبر تلك الحدود، لكن دون اغلاقها في وجه مقاتلي جبهة النصرة (فتح الشام) ومقاتلي أحرار الشام والجبهة الشامية والمقاتلين التركمان الذين تورد الأنباء بأنهم ما زالوا يتدفقون عبرها، مع كميات من الأسلحة الأكثر تطورا، نحو حلب الشرقية.
وكشف هذا التدخل التركي وجود تناقض تناحري بين تركيا والولايات المتحدة حول مستقبل الشمال السوري، كما كشف تدفق المسلحين على حلب عبر الحدود التركية، تناقضا تناحريا لكن صامتا بين روسيا وتركيا رغم الاتفاق الودي المعلن بين بوتين وأردوغان، اضافة لتناقضات أخرى كثيرة تواجهها تركيا في مواجهة الاتحاد الأوروبي، وفي مواجهة أنصار المعارض غولن، زد عليها التناقض الدموي الشرس مع أكراد تركيا.
ترى كم من الآثام ترتكب باسمك أيتها الدولة الاسلامية. فتحت شعارات تحرير البلاد من شرورك، يجري توسيع الرقعة الكردية قي كل من سوريا والعراق، تماما كما ارتكبت سابقا الكثير من الآثام الأخرى تحت لواء الربيع العربي، الذي نشر حالة الفوضى والاضطراب في المنطقة، ولم يحقق شيئا مفيدا لشعوبها، لكنه خلق الأجواء الملائمة الممهدة لظهور الدولة الكردية، وربما الدولة الاسلامية أيضا. وهنا فقط يمكن استيعاب ما سمي بمفهوم الفوضى الخلاقة التي بلغت ذروتها بظهور الدولة الاسلامية.
الشرق الأوسط الجديد بثوب جديد
فالاهتمام الأميركي الخاص بالأكراد سواء في سوريا أو في العراق، لم يكن اهتماما مباغتا، بل
هو اهتمام مبني على استراتيجية اميركية مدروسة منذ قرابة الربع قرن أو أقل، وهي استراتيجية تقسيم دول المنطقة الى دويلات لابقائها ضعيفة حماية للمصالح الأميركية، وحماية أيضا لربيبتها اسرائيل. وكانت حرب عام 1991 ضد العراق بذريعة تحرير الكويت من الغزو العراقي، هي المحاولة الأولى لتنفيذ ذاك المشروع، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها نتيجة التدخل الايراني المفاجىء في تلك الحرب، الذي اضطر جورج بوش الأب لوقفها وقفا مباغتا دون تحقيق أهدافها بالوصول الى بغداد، بل واضطر الرئيس الأميركي للسماح للعراق بتجديد أسلحته التي فقدها في الحرب، ليتمكن من ملاحقة حرس الثورة الايرانية ومؤازريهم من شيعة الجنوب العراقي الذين وصلوا لمشارف بغداد.
وجرت المحاولة الثانية لدى غزو العراق عام 2003، لكنها فشلت أيضا لسببين، أحدهما المقاومة العراقية المسلحة التي أذاقت القوات الأميركية المحتلة الأمرين، وثانيهما الرفض الدولي للغزو ولتقسيم الدولة العراقية الى دويلات خلافا لرغبة شعبها، مما يتناقض مع مفاهيم القوانين الدولية. وهنا تفتق ذهن المخطط الأميركي عن المشروع البديل، وهو شرق أوسط جديد، لكن بثوب جديد، لا يتعارض مع الرفض الدولي لتجزئة دول المنطقة خلافا لارادة شعبها أو للقوانين الدولية,
فدولة كردستان المستقلة المقامة على أراض تقتطع من أربع دول هي سوريا والعراق وايران وتركيا، فيه فعلا تجزئة لبعض الدول، لكنها تجزئة ربما تتعارض مع رغبات شعب المناطق المنتزعة تلك المواقع من دولها، لكن فيه أيضا استجابة لرغبة شعب آخر يسعى للتحرر والاستقلال... انه الشعب الكردي المؤلف من ثلاثين مليون انسان، الذين يتطلعون للانعتاق من حكم الآخرين لهم، وللعيش في دولة مستقلة، علما أن ذلك حق طبيعي لهم، لولا كون الولايات المتحدة هي التي ترعاه لغرض آخر غير تحرير شعب ما. كما أنه حق يباركه بسرور بالغ، تصريح حديث لبنيامين نتانياهو- رئيس وزراء اسرائيل الطامع بأن يكتسب كردستان حليفا لاسرائيل، يشاركها العداء للعرب. ومن هنا يفترض بدول المنطقة، أن تتسم بالتعقل وتمنح الأكراد وديا حقهم المشروع في الاستقلال، لتقطع الطريق على المخططات الأميركية والاسرائيلية في ابتلاع الدولة القادمة ولو بعد لأي.
وكانت المحاولة الأولى للحصول على الاستقلال لأحد المناطق الكردية، قد جرت في عام 1946 عندما أعلنت جمهورية مهاباد المستقلة، في الاقليم الكردي الواقع في شمال شرق ايران المحاذي للحدودين العراقية والتركية. لكن جمهورية مهاباد لم تعمر طويلا، ليعاود "قاسم لو" - قائد التجمع الكردي في ايران، المحاولة في عام 1979 مستثمرا حالة الاضطراب التي سادت الجمهورية الاسلامية في بواكير أيامها. لكن ثورته التي انطلقت من مهاباد أيضا، لم تصمد طويلا. اذ سرعان ما أنهاها حرس الثورة الاسلامية الايرانية. وها هو الآن مسعود البرازاني في عام 2016، يسعى مجددا لاعلان اقليم كردستان العراقي المتمتع بالحكم الذاتي، دولة مستقلة، مع مساع مشابهة تجري صامتة الآن في الشمال السوري.
ويبقى التساؤل عن مستقبل هذه الاستراتيجية مع قدوم رئيس جديد للولايات المتحدة هو دونالد ترامب. فموقفه لم يزل غامضا نحوهم، الا أنه قد ذكر مرة في أحد خطاباته، كما يقول موقع للأكراد اسمه EKURD DAILY، أن الأكراد قد أسيئت معاملتهم. كما أشاد في خطاب آخر بشجاعتهم في مقاتلة الدولة الاسلامية. واضافة الى ذلك، قد يمكن القول أن تبدلا جوهريا بخصوص الاستراتيجية الأميركية المتعلقة بالمسألة الكردية، لا يمكن توقعه في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترامب. فالولايات المتحدة قد شرعت تمهد لها منذ سنوات، بحيث باتت استراتيجية أميركية معتمدة وقطعت شوطا بعيدا في مراحل التنفيذ وخصوصا في سوريا والعراق.
فاذا كانت المسألة الكردية في الجانب التركي هي مسألة مؤجلة لمدة زمنية قد تكون طويلة، فان ملف أكراد ايران قد لا ينتظر طويلا قبل أن يفتح مجددا. فالرئيس ترامب اذا وجد نفسه عاجزا عن تنفيذ وعوده الانتخابية بالغاء الاتفاق الأميركي مع ايران الخاص بالملف النووي، نظرا لكونه اتفاقا دوليا موقعا من ست دول كبرى وباركه مجلس الأمن الدولي، فانه قد لا يكون عاجزا، بل وربما راغبا، في فتح ملف أكراد ايران في وقت قد لا يكون بعيدا، كخطوة لاثارة المتاعب لدولة ايران الاسلامية من ناحية، ومن ناحية أخرى بغية المضي قدما في مشروع الدولة الكردية القادمة لا محالة، لتلعب دور الشرطي الأميركي الحريص، كما يتمنى الأميركيون، على حماية مصالحها في دول المنطقة الغارقة في صراعاتها...ولكن في المقابل، تتمنى دول المنطقة وشعوبها، أن تتحول دولة الأكراد القادمة لا محالة، الى رفيق درب يساهم في ابعاد الأطماع الأميركية عن المنطقة، لا العمل على حمايتها وتأمين مصالحها.