«جوزيف» وبناته.. وقداس الشيخ رضوان
مقالات مختارة | عاطف بشاى
الاثنين ٢١ نوفمبر ٢٠١٦
يقول الخبر الذى نشر بجريدتنا الغراء منذ فترة، إن أسرة مسيحية أجبرتها محكمة الاستئناف بالإسكندرية على اللقاء داخل مسجد تنفيذاً لحكم أصدرته بالسماح للأب برؤية طفلتيه اللتين تعيشان مع طليقته مرة كل يوم جمعة من الثالثة مساء ولمدة ثلاث ساعات.. وهو ما يعد أول حكم من نوعه، والذى تسبب فى إدخال العائلة المسيحية فى أزمة أكبر من مشكلة الانفصال.. وقضية رؤية الأطفال.. خاصة أن الفترة المحددة للرؤية تتزامن مع صلاة العصر.
ويقول والد الطفلتين تعليقاً على ذلك: أصابنى الذهول عندما سمعت الحكم.. وقد رفض القاضى الاستماع لى عندما حاولت إقناعه بالسماح بالرؤية داخل كنيسة بالمنطقة نفسها.
وبعد 6 شهور من عدم رؤية بناتى اضطررت للذهاب إلى إمام المسجد للتحدث معه، فأكد احترامه للقانون واستعداده لتنفيذ حكم المحكمة.. وفتح لى المسجد يوم الجمعة للقاء بناتى.. لكن الموعد تزامن مع صلاة العصر.. واضطررت للبقاء أنا وبناتى أثناء تأدية صلاة لديانة أخرى..
وناشد الأب الرئيس «السيسى» ووزير العدل ضرورة تغيير الحكم أو السماح له برؤية بناته فى مكان آخر.
توقفت عند عبارات الانزعاج التى أبداها الرجل وضيقه من تزامن ميعاد الرؤية مع صلاة لديانة أخرى.. وتصعيده الأمر إلى حد الاستغاثة بالرئيس والوزير. كما استوقفنى تعبير أن مشكلة الانفصال بين الأبوين.. ومشكلة قانون الرؤية الجائر يمثلان أزمة أقل وطأة من رؤية الأب لطفلتيه فى المسجد.. أدهشنى أيضاً أن يظل الأب لا يرى ابنتيه لمدة (6) شهور كاملة.. فإذا كان هو الذى قرر الانقطاع عن الرؤية فكيف تصطدم العواطف الإنسانية من حب واشتياق لفلذات الأكباد بمكان اللقاء.. وإذا كانت الأم هى التى رفضت ذهاب الطفلتين إلى المسجد.. فكيف تتناقض الرحمة مع السماحة وقيمة المواطنة التى تتراجع أمام العنصرية؟!.
وذكرتنى هذه الواقعة بقصة قصيرة بديعة للكاتب الكبير الراحل «خيرى شلبى» هى «قداس الشيخ رضوان» فحواها أن قساً وإماماً لمسجد بإحدى القرى تربط بينهما صداقة قوية منذ شبابهما.. والشيخ الذى يعشق الغناء والموسيقى يملك ورشة صغيرة للتجارة.. تقع فى مواجهة الكنيسة وتصل إلى مسامعه التراتيل والألحان الدينية التى يطرب لها ويندمج متواصلاً معها حتى صار يحفظها كما يحفظ «القداس» بكل تفاصيله.. والشيخ والقس يسهران معاً كل يوم فى منزليهما فى تسامر جميل.. الشيخ يغنى ويعزف على العود.. والقس يطلق النكات والطرائف.. ويتبادلان المجاملات العائلية الطيبة فى الأعياد والمناسبات المختلفة.
وتحدث المفاجأة قبيل ليلة عيد الميلاد حينما ينقل القس إلى كنيسة أخرى فيودع الشيخ وداعاً حاراً وتنتظر العائلات المسيحية بالقرية وفود القس الجديد ليؤدى صلاة العيد فى قلق وترقب.. لكن حضوره يتأخر.. ويحل ميعاد الصلاة.
وإذا بالشيخ يدخل الكنيسة فى الوقت المناسب إنقاذاً للموقف مرتدياً ملابس القساوسة.. ويبدأ فى تأدية مراسم الصلاة بمهارة وثقة.. ويقود الشمامسة.. بل يقوم بالعظة.. ولما يحين الفجر ويرتفع صوت مؤذن الجامع.. ينهى الصلاة.. ويسرع مهرولاً فى اتجاه المسجد ليؤم المصلين.
لو أن الأخ «جوزيف» والد الطفلتين يتمتع بتلك الروح الجميلة السامية وينتهز الفرصة ويحول طاقة الغضب السلبية داخله إلى طاقة سماحة دينية.. ونبل.. ونبذ للعنصرية.. ويعلم بناته -وكذلك تفعل طليقته- أن حبهم للخالق لا بد أن يتسع لحب الآخر.. وحب الإنسانية بأسرها..
لو أن الأخ «جوزيف» تذكر أهمية أن ترتفع المواطنة فوق الطائفية كما تذكر مقولة البابا تواضروس، وإن اختلف الموقف عند حرق الإرهابيين للكنائس: «سنصلى بالمساجد.. المهم أن يبقى الوطن»..
لو أن هذا حدث لصار لدينا أمل أكبر فى القضاء على الإرهاب.
والمولعون بالماضى مثلى (إلى درجة المرض) لا بد أنهم يتذكرون -من واقع قراءاتهم فى السياسة والتاريخ- «عريان يوسف» طالب الطب القبطى عضو منظمة «اليد السوداء» التى كان هدفها اغتيال ضباط الاحتلال البريطانى والمتعاونين معهم من المصريين.. ففى عام (1919) وبينما كان «يوسف وهبة» باشا رئيس الوزراء القبطى يمر بسيارته فى شارع «سليمان باشا» ألقى عليه «عريان» قنبلتين.. لكن «وهبة» باشا نجا.. وحكم على «عريان» بالأشغال لمدة عشر سنوات.. واعترف بأنه أراد كقبطى أن يغتال عميل الاستعمار حتى لا يدان المسلمون، ويقال إن الباعث دينى.. ومن ثم تشوه الحركة الوطنية وتظهر فيها مسألة «الأقلية» و«الأكثرية».. وهى بغية الاستعمار ومنتهى أمله أن يتخذ من حماية الأقلية سبباً لبقائه وبقاء الاحتلال.. فالبلاد مقبلة على خطر محدق.. هذا قبطى يرأس الوزارة.. والشعب ثائر.. والبرقيات تنهال كل يوم على رئاسة الوزراء.. تطالب باستقالتها.. والمظاهرات لا تنقطع تهتف بسقوطها.. وذلك بسبب الإعلان عن نبأ قدوم لجنة إنجليزية برئاسة اللورد «ملنر» وزير المستعمرات البريطانية لبحث مطالب البلاد فى (مصر).. تلك اللجنة التى أعلن «سعد زغلول» من باريس مقاطعتها.. لكن «يوسف وهبة» رئيس الوزراء قبلها.. رغم أن البطريرك أرسل له وفداً من أعيان الأقباط يرجونه ألا يخالف إرادة الأمة.. ويكون سبباً فى سوء الظن بالأقباط وإيقاع الفرقة بين العنصرين.. يقول «عريان» فى مذكراته: «إذا دبر فرع من الفروع الاعتداء على رئيس الوزراء وقعت الواقعة وقيل إن المسلمين اعتدوا عليه وتمكنت من الهرب لما قيل غير ذلك، إذ لا يقوم دليل على أن المعتدى قبطى.. إذاً لا بد أن أسلم نفسى بعد الاعتداء حتى يعلم أن المعتدى ليس من المسلمين.. وفاتحت صديقى فى الأمر فأكد لى أن الموت فى تلك المحاولة أمر محقق؛ إما فى أثناء الحادث على يد الحرس، وإما بحكم الإعدام الذى لا شك فيه.. قلت إذا كنا نطلب للوطن الحرية والاستقلال فما نيل الحرية والاستقلال بالأمر الهين.. ولو لم يكن الموت حائلاً بين المستعبدين والحرية لما كان فى الدنيا مستعبد واحد.. لقد حزمت أمرى منذ بدأت الثورة على أن يكون سبيلى فيها سبيل من لا يعبأ بالحياة.. وأنا ميت على كل حال.. إن لم أمت اليوم فى شرخ الشباب فأنا ميت حين تدركنى الشيخوخة.. لكن الوطن حى لا يموت.. إن الوطن خالد فلا يحق أن نتركه باقياً فى القيود لكى نحتفظ بأرواحنا إلى حين».
أعلى «عريان يوسف» إذاً من شأن المواطنة فوق الطائفية وأقدم على التضحية بحياته عن طيب خاطر ودون أن يتردد لحظة دفاعاً عن شرف الوطن وحريته واستقلاله ومقدماً مثلاً لا يتكرر للغيرة على نقاء وحدة وتماسك عنصرى الأمة فى مواجهة المستعمر الأثيم.
نقلا عن الوطن