صفية والفكر بالتقلية!
مقالات مختارة | مفيد فوزي
السبت ١٩ نوفمبر ٢٠١٦
كان من الممكن أن أستمر بحماس فى كتابة مقال السبت وكان موضوعه: تحضر المصريين فى مباراة غانا.. فقد كانت «الحالة الأمنية» تشغلنى أكثر من نتيجة المباراة، خصوصاً أن مشهد جماهير هذه المباراة فى استاد برج العرب كان «يخض»، إذ امتلأ الاستاد عن آخره بصورة لم أتوقعها، وتصورت للوهلة الأولى أنى أخطأت فى القناة التى ستذيع وقائع الماتش، فقد تعودنا أن نرى المدرجات الخالية على وزن الوسادة الخالية، ولكن ذلك المساء كان مختلفاً، ربما أكثر من ثمانين ألف إنسان ملأوا المدرجات بنظام بديع أحبط حساباتى. لقد كنت من المؤمنين بتأجيل اشتراك الجماهير الغفيرة فى المباريات حتى إشعار آخر، وكنت أرفض تفاؤل وزير الشباب القوى وأوثر «مباراة بدون جماهير» لأنى كنت دائماً فوق كومة حذر بالغ من بعبع اسمه الألتراس، وتضاعف حذرى لأن المباراة تفوق خريطة مصر ومحلية مبارياتها إلى اهتمام كروى عالمى، ولست بالمناسبة حريفاً فى الكرة لكن منظر اقتحام الكرة للشباك يبهرنى فأصيح!. ولمباريات المنتخب طعم خاص يروق لى متابعته، لكن حذرى لم يكن فى محله، فقد فاجأتنى الجماهير بما لم أتوقعه ولست أنكر «قبضة الأمن»، لكنها لم تصدر لى انطباعاً بالحزم القاسى، صحيح كان حزماً يضع الأمور فى نصابها، بحيث تراجع تماماً الخروج عن الصف، ورغم كل ذلك كانت عندى هواجس شخصية، منها أن بإمكان البعض افتعال معارك وهمية، وتتسع الدائرة، منها إثارة بعض نعرات التعصب للأندية يؤدى إلى غضب عارم لا نعرف مداه، وفى الخلفية قول شهير لأستاذ علم النفس المفكر يحيى الرخاوى حيث يقول إن «مشاعر العداء تنمو بالاحتكاك وتلك أخلاق الزحام». ومع كل الاعتبارات التى لم أسقطها من حسابى فإن جماهير ملاعب 13 /11 فى برج العرب كانت «متحضرة» للغاية، وأقصد بالتحضر هنا الوعى بالمسؤولية أمام العالم وضبط الثبات الانفعالى وإحساس المصرى بتاريخه ومشاعر العزة والكرامة فى داخله، ولأول مرة تخرج الأسرة المصرية إلى الملاعب، معنى هذا أن رهان خالد عبدالعزيز وزير الشباب كان رهاناً على ثوابت، وهذا ينفى غضب المصريين من الأسواق والغلاء، فقد اتضح أنه غضب مفتعل وأن المصرى «حمال أسية» وبعد صبره يعرف «الفرحة».
كان من الممكن أن أستمر فى الكتابة عن فكر عالم الاجتماع سيد عويس وإبحاره فى الشخصية المصرية المحيرة وسلوكها المتحضر فى الأزمات أو المواجهات حتى ولو كانت مباراة كرة قدم أو حرباً ضد إرهاب.
■ ■ ■
كان من الممكن الاستمرار لولا هذه اللحظة.
فقد لمحت مديرة البيت صفية «أم شاهندة» تحمل أكواما من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية فى كيس أسود من الورق استعداداً لإلقائها فى صندوق الزبالة القابع خارج الشقة، وما كدت أرى المشهد حتى صحت فى وجهها: بلاش يا أم شاهندة.. فردت ببرود: بلاش إيه يا أستاذ؟، قلت: بلاش ترميها فى صفيحة الزبالة! فقالت بدهشة واستنكار: ما احنا بنضّف كده من سنين!. أعادت صفية كيس الجرائد إلى المطبخ وأخرجت بعضها لتفرشه فى أدراج دواليب وبعضها تقشر عليه بصل!! ولم أستطع أن أمنعها، بينما ارتسم الذهول على وجهها وظهرت الحيرة جلية على ملامحها، لذت بالصمت فقطعته: أديه لبتاع الروبابيكيا؟. كان وقع كلمة «الروبابيكيا» ثقيلاً على أذنى، فلم أرد على سؤالها وهبطت على رأسى تأملات مزعجة، إذ كيف تذهب عصارة العقول إلى صناديق القمامة، وكيف ينتهى الفكر إلى بائع الروبابيكيا؟ أخذت أتأمل الجهد الذهنى الذى استغرقته هذه الجرائد والمجلات التى حكم على حروفها بالإعدام، هل هذا هو مصير القرائح والعقول؟، هل سهر الليالى فوق الورق ينتهى عند قشارة البصل والتقلية؟ آه يا صفية لو تعلمين ماذا تفعلين؟، لكن صفية «أم شاهندة» لا تعرف القراءة والكتابة، وقد حجب عنها الجهل معاناة العقل ورحلته مع السأم والسقم، حين تكور صدرها فى الصعيد وكان هذا مبكراً منعها من الذهاب إلى المدرسة، وتزوجت مبكراً فقررت أن تعمل ولا تعتمد على رجل «يومين شغل وبقيت الأسبوع بطال».
لا تعرف صفية مدى حزنى الداخلى على قسوة رحلة الجرائد إلى صناديق القمامة، وودت لو أرسلها بنفسى إلى مصنع يعيد تدويرها ويصنع أى شىء بالعجينة.
لكن «أم شاهندة» لن تفهم أحزانى ولو صارحتها لانفجرت بالضحك!. أنا أعلم أن الجرائد التى أقرؤها يومياً، تجمعها ثم «ترميها فى الزبالة» وأنا يقهرنى هذا المعنى من الأعماق.
تذكرت البواب شوقى الذى كان فى نهاية كل شهر يحمل زكيبة من الجرائد والمجلات بعد أن يربطها بحبل ملون، كنت أشعر أن هذا حل أفضل من الإلقاء فى صفيحة الزبالة أو عربية الروبابيكيا، وكان شوقى يعرف مهنتى ويعامل الصحف برفق ليرضينى، أما صفية فهى تعامل الجرائد بصلف لأنها معنية بنظافة مكتبى، ولن تفهم نوعية المأساة!!. كانت صفية- بذكاء ريفى محدود- قد فطنت لمعاملة أكياس وأكوام الصحف القديمة بأسلوب أفضل، فلم تعد تقشر البصل فوقها ولم تعد تفرشها فى الأدراج ولم تعد تلقيها أمامى فى صندوق الزبالة خارج الشقة.
لكن صفية سألتنى بسذاجة وبلهجة صعيدية:
- صعبانة عليك الوريجات؟
وقد تمتمت بينى وبين نفسى دون أن تسمعنى: صعبانة علىَّ!.
■ ■ ■ ■
فى الشأن العام
1- الشاب «أحمد مرتضى» ارفعوه أو أخفوه، لكن لا تنسوا أنه صاحب شعبية فى دائرته بين منتخبيه، وليس له سوى وجه واحد، وجه «مصرى»، وكره الإخوان مثل ملايين المصريين وأعطيته صوتى.
2- أتذكر «أسطى الصحافة المصرية» الأستاذ الكبير حقاً موسى صبرى، بدون مناسبة، وهل تحتاج «المهنية» إلى مناسبة؟.
3- حسين صبور، نموذج لرجل أعمال «محدد» و«مستقيم» و«دوغرى» وفاهم ولا أرتبط معه بمصلحة.
4- أيتها «الهاشتاجات»، كم تغوصين فى دنيا الأعراض وحاجات ومحتاجات!.
5- وسيظل «عبدالحليم حافظ» الصوت إللى «انفطمنا» عليه وقلوبنا «عرفت الحب» عليه و«كبرنا» عليه و«اتجوزنا» عليه و«نضجنا» عليه.
6- عندى إيمان عميق أن صاحب الجهد المضنى لا يخذله الله فهو يشكر الله ويحمده ليصون النعمة، هناك سيناريوهات إلهية تتدخل. النموذج «منى السيد» الفتاة المكافحة التى تجر عربة بضاعتها كل نهار، تقابل أكبر رأس فى البلد فى مقر الاتحادية ويودعها بنفسه ويدعوها لمؤتمر شرم الشيخ لتكون رمزاً «للكفاح والعمل» بدلاً من البطالة والهجرة غير الشرعية والموت على سواحل أوروبا، إنه موقف «شديد الرقى» من رئيس إنسان.
7- أكاد أقول: فقدنا «المعايير» فى أحكامنا على الأشياء. إذا أشدنا بسلوك محترم أو إنجاز مهم قال البعض نفاق. إنه خلل فى قياسنا لمدى الاحترام أو الأهمية فى التصرف.
8- لا تنسينا «لوثة الفرح» فى انتصارنا الكروى على غانا قضايانا الحيوية، فلا تنهض الشعوب بكرة القدم، إنما بالعلم والتعليم، بالعقول لا بالأرجل الذهبية.
9- تعالوا - فى دعوة صادقة من قلب مصرى لا يبغى شيئاً- نستفِد من كل الخبرات «المصرية» دون تصنيف أو تقسيم أو محسوب على مين.
نقلا عن المصري اليوم