قبضنا عليه ميت وسلخناه (!!)
مقالات مختارة | سعيد السني
الجمعة ١٨ نوفمبر ٢٠١٦
بشعة ومؤذية ومرعبة هي المشاهد والصور المتداولة على الإنترنت، لجثة المواطن مجدي مكين «قتيل الأميرية»، وكاشفة عن قسوة وسادية متجذرة في نفوس هؤلاء الذين سحلوه وقتلوه تعذيباً بمنتهى الوحشية، إلى حد إجراء نوع من «السلخ» لجلد القتيل في أماكن متفرقة وحساسة من جسده، ووجود دماء نازفة من جميع فتحات جسدة، حتى ظننت أن الحظ العائر ساق القتيل للوقوع في أيادي «داعش»، بكل بشاعتهم وغلظتهم ووحشيتهم المنافية للإنسانية.
«قتيل الأميرية» رجل خمسيني أرزقي، خرج من بيته المتهالك بمنطقة القصرين، سالماً بالعربة الكارو التي لا يملك من حطام الدنيا غيرها، يجرها حصان مُستأجر، ساعياً إلى الرزق مثل ملايين البسطاء المطحونين فقراً، لتوفير الطعام وسُبل العيش لولدان وابنة وزوجة يعولهم.. لكنه لم يعد إليهم، إنما إلى مستشفى الزيتون، ومنها إلى مشرحة زينهم «جثة هامدة»، تكاد تصرخ ألماً من الظلم والسحل والتعذيب والسلخ الذي طالها على يد حيوانات آدمية تمتلك قلوباً متحجرة، متجردة من الرحمة والصفة الإنسانية.. القتيل إذن هو حلقة جديدة في مسلسل حكايات التعذيب الطويل والسقيم، الذي لا ينتهي، ولا يريد أن يغادرنا، مع أن العالم المتحضر كله ودّعَ مثل هذه الأساليب والحكاية المنتمية إلى عصور الظلام والتخلف والجهل وإهدار قيمة البشر المحكومين، واستعبادهم لصالح الحاكم ورجاله.. بحسب أسرة «مكين» ومحاميها، والبلاغ المقدم منهم، فإنه سقط مُسحولاً ومعذباً وقتيلاً، على خلفية احتكاك وقع بين الحصان وسيارة ميكروباص تابعة للشرطة، أو ربما لأن القتيل لم يفسح الطريق للباشوات، وهو إثمٌ عظيم لو تعلمون، وزاد بالجرأة والاعتراض على الإهانات.. جردوه من بعض ملابسه وسحلوه لمسافة، قبل أن يقتادوه وشخصان آخران إلى قسم شرطة الأميرية.. هناك أقيمت مراسم التعذيب، ليمارس الباشا النقيب ورجاله الأشداء ساديتهم وهوايتهم، توحشاً، وتعذيباً للمسكين حتى الموت، كأنهم في سلخانة بشرية.. لم يرحموا ضعف الرجل ولا سنه الكبير ولا قلة حيلته.. بعد أن قتلوه حملوه إلى مستشفى الزيتون، وحين استفسر أمن المستشفى، أجاب الضابط بكل ثقة: «قبضنا عليه ميت» (!!!)، وربما نسيّ أن يكمل ويقول و«سلخناه» (!!!).
قتيل الأميرية لحق بأمثاله عديدين خلال العام المنقضي، منهم عفيفي حسن الطبيب البيطري الإسماعيلاوي، والمواطن الأقصري طلعت شيبوب، وبائع الشاي بالرحاب وسائق الدرب الأحمر، وغيرهم، ممن سقطوا قتلى تعذيباً بأياد شرطية، أو برصاص أمناء شرطة كما الحالتين الأخيرتين، وفي كثير من حالات التعذيب التي تنتهى بالوفاة، سرعان ما تجد القتيل متهما بحيازة مواد مخدرة أو الاتجار بها، أو صاحب سوابق، تماما وبالضبط على غرار اتهام «مكين» بحيازة 2000 قرص مخدر.. فقد اعتدنا من «القتلة الشرطيين» المتورطين في التعذيب، تلفيق مثل هذه التُهم الجزافية المُعلبة، لـ«الضحايا»، وكأنه لا يشفي أمراضهم ترحيل المُعذّبين إلى العالم الآخر، أو أنهم يظنون هذه الاتهامات المزيفة تصلح مبرراً كافياً وقانونياً للتعذيب حتى الموت، وهم في كل الأحوال لايتورعون عن تلويث سمعة الضحايا، وذلك في سبيل التنصل من جرائمهم الوحشية المناهضة للإنسانية.
عادة تُنكر «وزارة الداخلية» مثل هذه الوقائع في البداية، ثم تفتح تحقيقاً، وفي النهاية لن تتستر على الجناة، كما ليس من مصلحتها التستر على مثل هذه النوعيات السيئة من رجالها الذين يلوثون الجهاز الشرطي كله، ويوصمونه بالمساوئ والتشوهات، رغم أنهم قلة عددية، يمثلون نسبة لا تكاد تُذكر، قياساً إلى الحجم الكبير للشرطة.. فلم يعد التستر على هذه الجرائم ممكنا، مثلما كان الحال في الماضي، كما أن حصانة الباشا الضابط بأقاربه وسلطته لن تحميه طويلاً.. على أن اشمئزازنا من الواقعة بتفاصيلها المقززة لا يمنعنا من التقرير بأن هناك عشرات الآلاف من الشرطيين يتمتعون بالنزاهة والخلق السليم والالتزام بحدود القانون والوقوف على عتبات حرماته.. على أن تكرار هذه الحوادث الجنائية من رجال الشرطة يوجب على وزارة الداخلية أن تنتدب فريقاً علميا يضم بعضاً من رجالها وأساتذة علوم النفس والإجرام والتربية والاجتماع والقانون، أو أن تُستعين بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، لدراسة ملف هذه الوقائع وغيرها خلال السنوات الأخيرة، للوقوف على أسباب التجاوزات المسلكية والقانونية لرجال الشرطة، والتورط بمثل هذه الجرائم الوحشية، وصولا إلى استخلاص التوصيات اللازمة للتخلص من أمثال هؤلاء المتوحشين والساديين، ونزولاً بالتجاوزات الشرطية إلى المعدلات العالمية.
نقلا عن المصري اليوم