بقلم: سليمان يوسف
لا فرق بين من يمنع بناء كنيسة وبين من يفجر كنيسة ثمة رابط \"عقائدي – إيديولوجي\" بين (مجزرة كنيسة سيدة النجاة) التي وقعت وسط العاصمة العراقية بغداد في 31 تشرين الأول الماضي وبين (مجزرة كنيسة القديسين) التي وقعت ليلة 31 كانون الأول الماضي وسط مدينة الاسكندرية المصرية،حيث كان يقيم الأقباط القداس الإلهي احتفالاً بالعام الميلادي الجديد 2011.فهذه المذابح الوحشية وما سبقها من مذابح بحق المسيحيين في مصر والعراق وفي أماكن أخرى، لا يمكن فصلها أو عزلها عن التصعيد الطائفي والعنف المنظم ضد مسيحيي المشرق لتفريغ المنطقة منهم،تحقيقاً لرغبة اسلامية قديمة، كشف عنها الرئيس المصري الراحل(أنور السادات).
وقد دخل هذا التصعيد، مرحلة متطورة وخطيرة جداً.ولم تعد مشكلة \"الأقليات المسيحية التاريخية\"، مثل الآشوريين(سريان/كلدان) والموارنة والأقباط ،الأسبق وجوداً في بلاد ما بين النهرين و بلاد الشام ووادي النيل، قضية حقوق سياسية وحريات دينية، وانما قضية بقاء ووجود.فبعد أن كاد العراق أن يخلو من الكلدوآشوريين والمسيحيين، جاء الدور اليوم على أقباط مصر،ومن بعدها على دولة مشرقية أخرى،يبدو أن (لبنان)هي الدولة المرشحة في المرحلة القادمة. في ضوء طبيعة النظام (السياسي والأمني) القائم في مصر، وعدم تعامله بشفافية مع المعضلات الداخلية،خاصة مع الملف القبطي،يشكك الكثير من المحللين السياسيين والخبراء الأمنيين ومن المهتمين بالشأن المصري بالرواية الرسمية للحكومة المصرية،المتعلقة بـ\"مذبحة كنيسة القديسين\"، والتي تقول \"بوقوف جهات خارجية خلف هذه المذبحة \".فكما هو معلوم، أن تزوير الوقائع وتشويه الحقائق هي من سمات وطبائع الاستبداد والأنظمة الشمولية.والنظام المصري يعد من الأنظمة التي احترفت التضليل على شعوبها وأبدعت في النفاق السياسي والخطاب الديماغوجي المؤدلج والمرتكز دوماً الى \"نظرية المؤامرة\"، التي تقوم على جعل من الخارج \"شماعة\" تلقي عليها الأنظمة الفاسدة كل أسباب إخفاقاتها ومشكلاتها الداخلية. وما إسراع القيادات المصرية،السياسية والأمنية،منذ اللحظات الأولى لوقوع الجريمة وقبل أن يفتح أي تحقيق فيها، الى اتهام جهات خارجية بالوقوف خلف هذه الجريمة الوحشية،إلا محاولة مكشوفة للتغطية على مسؤوليتها الكاملة عنها وعن تقصيرها الغير مبرر والمتعمد في حماية مواطنيها الأقباط.
فالأوساط المشككة بصحة الرواية الرسمية المصرية تضع \"النظام\" في دائرة الاتهام وتعتبره المسئول الأول عن \"مذبحة كنيسة القديسين\" وغيرها من الجرائم التي يشهدها المجتمع المصري.
وهذه الأوساط ترجح وقوف \" جماعة إسلامية جهادية سلفية محلية مصرية \" وراء هذه الجريمة النكراء.وهذه الأوساط المشككة تضع تصريحات الدوائر الرسمية المصرية،المتعلقة بتوصل الأجهزة الأمنية الى معلومات مهمة من شأنها أن تؤدي إلى الوصول الى مرتكبي هذه المذبحة الوحشية،في اطار \"توجه رسمي معروف ومعتاد من السلطة في مصر للتخفيف من الاحتقان الطائفي في الشارع القبطي الذي أججته المذبحة ولامتصاص غضب وعنفوان الشارع القبطي الهائج\".وفي ذات السياق،أعتقد ويعتقد الكثير من المحللين السياسيين والمهتمين،بأن النظام المصري هو أكثر المستفيدين من مثل هذه الجرائم الطائفية. فمن جهة، سيشغل الرأي العام المصري بمؤامرة مزعومة ومفتعلة ليبعده عن قضية السلطة والحكم والديمقراطية والتوريث .
ومن جهة أخرى،أن هذه المذابح المروعة سترهب الأقباط وقطاعات مصرية أخرى وستجعلهم يتمسكون بهذا النظام رغم مساوئه وتفضيله على الاسلام السياسي المتشدد الذي يسعى الى حكم مصر وفق \"الشرع الاسلامي\".
ومن جهة ثالثة،ستضاعف مثل هذه الجرائم والحوادث الطائفية من سخط واستياء الأقباط وقطاعات شعبية وسياسية وأوساط اقتصادية وثقافية اسلامية واسعة على جماعة \"الأخوان المسلمين\" وعلى غيرها من التيارات الاسلامية المتشددة، الخصم السياسي والأيديولوجي اللدود للنظام والحزب الوطني الحاكم. الأنكى والأكثر استهجاناً في موقف الحكومة المصرية هو نفيها للبعد الطائفي وللخلفيات الدينية الواضحة لمذبحة كنيسة القديسين,ورفضها أن يقرأ هذا العمل الارهابي على أنه موجه ضد الأقباط.لأنه،وفق القراءة الحكومية، موجه ضد الدولة المصرية والوطن المصري .طبعاً،هذا نوع من المزايدة في الوطنية من قبل نظام طائفي بامتياز ولا وطني بامتياز.ولا اعتقد بأن أحداً،داخل مصر أو خارجها ولا حتى من أهل الحكم،يصدق الرواية الرسمية المتعلقة بظروف وحيثيات مذبحة كنيسة القديسين.اذ، لا تخفى على أحد حالة الاحتقان الطائفي المتفجر والغلو في التطرف الديني المتنامي في الشارع الاسلامي المصري الذي تصاعد بشكل لافت ومخيف في السنوات والأشهر الأخيرة.أن وقوع بضعة جرحى من المسلمين المارة في مكان الجريمة لا يبدل من حقيقة أن الارهابيين كانوا يستهدفون الأقباط ولا يلغي الخلفية الطائفية والعنصرية الحاقدة لهذه المجموعة الاسلامية الظلامية الرافضة لكل ما هو غير اسلامي.
وهذه المذبحة ليست الأولى،وغالباً لن تكون الأخيرة، بحق الأقباط الآمنين، وانما هي الحلقة الأسوأ حتى الآن في مسلسل العنف المنظم الذي يستهدفهم منذ حادثة الخانكة 8-9- 1972 والذي أوقع آلاف الأقباط بين قتيل وجريح،فضلاً عن أضرار فادحة في الممتلكات. وقد أدحضت الكنيسة القبطية في بيان لها مزاعم وادعاءات الحكومة المصرية.جاء في البيان الكنسي:\"اذ نستنكر هذا الحادث الذي يهدد وطننا وأمن وأمان مواطنينا نرى ان ما حدث يشكل تصعيدا خطيرا للأحداث الطائفية الموجهة ضد الأقباط.وان الحادث وقع نتيجة للشحن الطائفي والافتراءات الكاذبة التي كثرت ضد الكنيسة ورموزها في الفترة الماضية\".
وفي السياق ذاته،حملت العديد من مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية المصرية في بيانات لها،السلطات المصرية مسئولية هذه المذبحة.وأكدت هذه المنظمات في بياناتها على \" أن مصر من الدول التي تنفرد بالتمييز الطائفي، حيث تضع في البطاقة الشخصية وبقية الوثائق الرسمية للمواطن المصري خانة للدين للتمييز بين المسلم وغير المسلم، و تعيق من حرية أتباع المعتقدات الغير اسلامية في ممارسة حقوقها وحرياتها الدينية.واتهمت هذه المنظمات الحكومة الحالية باستغلال الدين من أجل تعزيز سلطة النظام والحزب الحاكم.وقد جاء في بيان ( منظمة اتحاد المحامين للدراسات القانونية والديمقراطية)،\"أن مصر الدولة التي تحمى العنف وتأمن المعنفين وتحافظ على البلطجة لإرهاب الشعب لتمرير ما تريد\".
وفي هذا السياق أيضاً،يشار الى أن العديد من المدن المصرية،بشكل خاص القاهرة والاسكندرية ،تشهد بعد صلاة الجمعة مظاهرات ومسيرات اسلامية مفتوحة تنظمها جماعات اسلامية سلفية أصولية. يدعو فيها الخطباء إلى \"مقاطعة النصارى\"،اقتصادياً واجتماعياً.ويصدر بعض المشايخ والأئمة فتاوى تحرم على المسلمين مشاركة المسيحيين في أعيادهم ومناسباتهم الخاصة،والتحذير من خطر الأقباط على المسلمين واتهامهم مرجعياتهم الدينية بجلب أسلحة من الخارج وتخزينها في الكنائس ودور العبادة.ويحرض الخطباء على خطف الفتيات والنساء القبطيات للزواج منهن وإجبارهن على اعتناق الإسلام. السؤال الذي يفرض نفسه في سياق هذه القضية هو: اذا كانت السلطات على علم ودراية بوجود جهات خارجية تتآمر على مصر وتستهدفها، لماذا لم تحرك ساكناً الى حين وقوع المذبحة؟.ألم يكن من المفترض والواجب أن تقوم الشرطة وقوات الأمن بوضع حواجز أمنية في محيط الكنائس واغلاق الشوارع المحيطة بها أمام حركة السيارات فترة الأعياد المسيحية بعد إطلاق تهديدات جدية لأقباط مصر من قبل \"تنظيم دولة العراق الاسلامية\" المرتبط بالقاعدة والذي تبنى مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد،خاصة سبق وأن تعرضت الكنائس الى مثل هذه الهجمات الارهابية من قبل،مثل \"مجزرة كنيسة القديسة مريم\" في مدينة نجع حمادي التي وقعت ليلة عيد الميلاد في السادس من كانون الثاني الماضي( 2010 )، الى تاريخه لم يحاكم المتهمين بها رغم اعترافاتهم بتورطهم في الجريمة التي مازالت تلقي بظلالها وتأثيراتها السلبية على العلاقة بين الأقباط والمسلمين في مصر..؟؟؟.
في ضوء كل ما تقدم ذكره،أرى أن \"مذبحة كنيسة القديسين\"،وغيرها من الجرائم الوحشية والاعتداءات المنظمة التي تستهدف الأقباط المسيحيين، لا يمكن فصلها عن المشهد المصري العام، بشقه(السياسي والأمني والاسلامي والفكري والاجتماعي)، الذي يتحكم به النظام القائم.بتعبير آخر،أن ما حصل ويحصل للاقباط هو حصيلة عقود طويلة من الحكم الطائفي المعزز والمسنود باجتهادات فقهية والمحاط بخطاب اسلامي مشحون بالعنصرية والشوفينية الدينية.فرغم رفض النخب القبطية وعلى رأسها المؤسسة الكنسية والبابا شنودة وصف أقباط مصر بالاقلية باعتبارهم سكان مصر الأوائل والجزء الأصيل من مجتمعها،يصر الحكم الطائفي القائم في مصر على التعامل معهم على أنهم اقلية دينية واثنية \"أهل ذمية\" ليبرر اضطهاده لهم وحرمانهم من حقوقهم في المواطنة الكاملة وتهميشهم السياسي وإبعادهم عن المشاركة الحقيقة في ادارة البلاد والابقاء على التشريعات الظلامية والقرارات الجائرة التي تحد من حريتهم وتصادر حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية وتلك التي تمنعهم من بناء كنائس جديدة أو ترميم القديم منها والمهدد بالسقوط.فضلاً عن سعي الحكومة الى فرض (الشريعة والثقافة الإسلاميتين) بطرق وأشكال مختلفة على المسيحيين.بالطبع مثل هذه البيئة الملوثة بسموم وفيروس الطائفية المقيتة والعنصرية الدينية أن تفرخ ارهابيين وتنتج قتلة على الهوية باسم الجهاد الاسلامي.
حقيقة لا أجد فرقاً جوهرياً بين من يمنع \"بناء كنيسة\" وبين من \"يفجر كنيسة\".ولا فرق بين من \"يتهم الكنيسة\" باستيراد الأسلحة وبين من \"يقتل الكهنة والمصلين داخل الكنيسة\". فهذا وذاك هما وجهان لعملة ارهابية واحدة. النقطة المضيئة التي يجب التوقف عندها وسط هذا المشهد المصري القاتم، هي تجاوز \"الشارع القبطي\" حاجز الخوف وخروجه بمظاهرات غاضبة ومسيرات احتجاجية في أهم وأكبر المدن المصرية مثل القاهرة والاسكندرية وأسيوط . شارك فيها نشطاء أقباط ومسلمين وقوى سياسية وطنية تضامناً مع الأقباط للتأكيد على تمسكهم بخيار العيش المشترك بين مختلف مكونات المجتمع المصري.أن المظاهرات القبطية بالشكل والمضمون الذي خرجت فيه لا تبدو مجرد ردود أفعال عفوية غاضبة على المذبحة وانما هي احتجاج قبطي(شعبي ونخبوي)على الأوضاع القانونية والحقوقية الغير عادلة والغير منصفة للأقباط وللمطالبة بـ\"دولة المواطنة الكاملة\" لكل أبنائها.وهذه المظاهرات هي مؤشر واضح وصريح على فقدان الجماهير القبطية وقطاعات مصرية كبيرة الثقة بالحزب الحاكم وبنظامه السياسي وبأجهزته الأمنية والقضائية المتواطئة مع المجموعات الاسلامية المتشددة.فقد بات الجميع على يقين تام بأن \"القبلات الوطنية\" و\"بيانات الإدانة والاستنكار\" أياً يكن مصدرها لن تحل مشاكل المصريين عموماً والأقباط خصوصاً ولن تردع الجهات الارهابية التي تستهدفهم. يبدو جلياً من خلال ردود فعل الشارع القبطي على مذبحة الاسكندرية بأن ثمة تحول سياسي وفكري مهم قد حصل في المجتمع القبطي. يتمثل هذا التحول بتراجع دور الكنيسة القبطية بعد أن كانت طيلة الحقبة الماضية،بسبب\"الفراغ السياسي\" الذي عانت وتعاني منه الساحة القبطية، مركز استقطاب ومرجعية تكاد تكون الوحيدة للاقباط للاحتماء بها في مواجهة المظالم(الحكومية والمجتمعية) التي تلحق بهم .فرغم إلحاح رجالات الكنيسة والمرجعيات الدينية ومطالبتها بوقف المظاهرات الاحتجاجية للاقباط ،أصر الشباب القبطي على التظاهر والاستمرار في التعبير عن غضبهم وانتقاداتهم للنظام وتحميله مسؤولية ما جرى ومطالبتهم باستقالة محافظ الاسكندرية ورؤساء الأجهزة الأمنية فيها.لقد تيقنت النخب القبطية بأن الكنيسة، باعتبارها \"مؤسسة دينية\" ،لا يمكن لها أن تذهب بعيداً في انتقادها للنظام القائم وفي دفاعها عن الحقوق المشروعة للأقباط وعن قضيتهم العادلة.لهذا فهي(النخب القبطية) أدركت أهمية وضرورة أن يكون للأقباط \"أطر سياسية\" و\"منظمات وفعاليات مجتمع مدني\"، قادرة على تجميع وتنظيم ردود فعل واحتجاجات الشارع القبطي ووضعها في سياقها الديمقراطي و الوطني الصحيح،حتى تحقق كامل مطالبها وأهدافها،المتمثلة بتسوية الأوضاع القانونية والحقوقية والدينية ولاجتماعية للأقباط وتمتعهم بحقوق المواطنة الكاملة واشراكهم في الحياة السياسية وفي ادارة البلاد وتمثيلهم بشكل عادل ومنصف في مختلف السلطات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية.