سعدت كثيرًا بتلك الدعوة الكريمة لحضور مؤتمر عُقد فى أبوظبى بدولة «الإمارات العربية المتحدة» الشقيقة، بعُنوان «نحو عالم متفاهم متكامل»، فى الثانى والثالث من نوفمبر الجارى، والذى يُعد الأول من نوعه فى منطقة الشرق الأوسط. وقد قام بتنظيمه «مجلس حكماء المسلمين» برئاسة فضيلة الإمام الأكبر أ. د. «أحمد الطيب» شيخ الجامع الأزهر. ويسعى المجلس من خلال إحدى مبادراته «حوار الشرق والغرب» والتى تهدف إلى الانفتاح على الآخر، ومد جُسور التعاون بين البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم، فى محاولة للبحث عن سبل العلاج من أمراض التطرف والعنف والإرهاب، والعمل على نشر ثقافة السلام فى العالم، والحد من اتساع نطاق الاستباحة فى حرمة النفس والأعراض والأموال، وتقديم المصالح العليا للإنسان والأوطان على المصالح الخاصة، وأن ينظم لقاءات دورية ومتعددة مع المؤسسات الدينية الأكبر فى العالم. وهكذا انطلق حوار «مجلس حكماء المسلمين» و«الطائفة الأسقفية الأنجليكانية».
أتوقف أمام كلمة الافتتاحية لفضيلة الإمام الأكبر أ. د. «أحمد الطيب»، التى أكدت أهمية رسالة الأديان لحياة الإنسان، وأن جميع المحاولات على مدى القرون السابقة التى حاولت أن تهُز تلك الحقيقة قد باءت بالفشل وأسرعت بالعالم نحو الدمار، كما أكد فضيلته أهمية دَور رجال الدين ورسالتهم فى تقديم السلام للعالم.
بدأت كلمة فضيلته بحديثه عن هذا اللقاء وأهدافه التى تسعى نحو تخفيف آلام البشر من الحروب والدماء فقال: «... وما أظن أن تاريخنا العربى المعاصر سبق أن سجل لقاءً بين حكماء المسلمين وحكماء المَسيحيِّين من أتباع «الكنيسة الإنجيلية»، وفى ظل اجتماع محدد الأهداف والغايات كاجتماع اليوم الذى نعول عليه كثيرًا- بعد الله تعالى- فى اتخاذ خُطوة جديدة على طريق بناء عالم متكامل ومتفاهم، للعمل من أجل تخفيف ما يعانيه الناس اليوم من رعب وألم ودماء وحروب».
ثم قدم فضيلته تحليلاً لتلك الحالة المأساوية التى يعيشها العالم اليوم من فزع وفقدان سلام وانهيار إنسانى، إلى البعد عن جوهر الأديان وتعاليمها التى ترتقى بالنفس الإنسانية ومبادئها، فى حين لم يوجد البديل لتلك التعاليم فانهارت القيم والمبادئ وتشققت العائلة الإنسانية الواحدة تحت وطأة الصراعات السياسية، فيقول: «وأظنكم، أيها السادة الحكماء، تتفقون معى فى أن أكثر المآسى التى باتت تعانيها البشرية اليوم إنما مردها إلى: شُيوع الفكر المادى، وفلسفات الإلحاد، والسياسات الجائرة التى أدارت ظهرها للأديان الإلهية وسخِرت منها ومن تعاليمها، ثم أخفقت إخفاقًا كبيرًا فى توفير بدائل أخرى غير الدين، تحقق للإنسان قدرًا من السعادة، أو أملاً فى حياة ذات مغزى وهدف، أو تضمن له حقوقًا كالتى تضمنها له الأديان الإلهية، وفى مقدمتها: حق العدل والمساواة، وحق الحرية، وحق الاختلاف».
وهكذا آلت هذه الحالة من عدم الاستقرار التى يعيشها العالم إلى الرغبة العميقة فى العودة إلى تعاليم الأديان وجوهرها، فيذكر فضيلته: «وإنى لا أرتاب، أيها السيدات والسادة، فى أن البشرية باتت تتطلع اليوم وبشغف شديد إلى العودة لجوهر الأديان الإلهية، وتعاليمها الإنسانية والخُلقية، بعد أن جربت الكثير والكثير، مما كاد يشرف بها على هلاك محقق ودمار شامل، وبعد أن استبدت هذه التجارب بمصائر الشعوب وحقوقها ومقدراتها، ورهنتها بسياسة القوة والغطرسة وفلسفة التوسع، وشهوة التسلط، وجُموح الفردية والأنانية».
إلا أن التقدم العلمى والفكر الفلسفى لم يتمكن من إشباع الإنسان وإنهاء دَور الأديان، بل انتقلت الإنسانية من أفكار علمية حاولت تقديم نظريات التطور وتصنيف البشر على أسس عنصرية لتُميز جنسًا على باقى الأجناس، فأدت إلى أهوال حربين عالميتين قضت على ملايين البشر. ثم تأتى الفلسفات والنظريات التى تبرر سياسة الاستعمار مثل صراع الحضارات والفوضى الخلاقة التى تمزق الشرق، فيستكمل فضيلته: «وقد اعتقد الناس فى القرنين الماضيَين أن التقدم العلمى، والتطور التِّقْنى والفلسفى، قد أنهى دَور الأديان فى الحياة، وأحالها إلى مُتحف التاريخ، وأن التطور فى كل هذه الميادين أصبح هو الأجدر بقيادة الإنسانية، وتولّى مسؤولية تهذيبها وترقية شُعورها، وكبح نوازع الشر فى أبنائها. غير أن الواقع كان يكذّب هذا الحُلم الجديد أولاً بأول، ويُحبط ما تعلق به من أوهام، وهما تِلو الآخر. وقرأنا فى كتب الكثيرين منهم أن القرن التاسع عشَر- مثلاً- إذا كان قرن المباحث العلمية وفلسفات التطور، فقد كان أيضًا قرن التوسع فى الاستعمار، وتوظيف العلم والالتواء به لتحقيق مصالح المستعمرين وأطماعهم السياسية، حتى زعم علماء هذا القرن ومفكروه أن الأجناس البشرية، لا ترجِع إلى أصل إنسانى واحد كما تُقرر الأديان المقدسة، بل إلى أصول عدة مختلفة، راحوا يتلمسونها فى القرَدة العليا وغيرها من الحيوانات، ثم بنَوا على هذه المزاعم نظريات أخرى تفرّق بين الناس، وتصنفهم على أساس من اللون والعنصر.. ولم يكُن القرن العشرون أسعد حالاً من سابقه، فقد وقعت فيه حربان عالميتان راح ضحيتهما أكثر من سبعين مليونًا من القتلى، ولم يكُن للدين بهما صلة ولا سبب، بل كانت نزعات العِرق والتفوق العنصرى فى «أوروبا» من أهم أسبابهما.. وبعد هاتين الحربين سَُِرعان ما ظهر سلاح الردع النووى كرعب عالمى يتهدد البشرية صباح مساء. ثم أطل القرن الواحد والعشرون بسياسة استعمارية جديدة، شديدة العنف والقسوة، أصابكم منها فى الغرب ما أصابكم، غير إنّا نحن- العرب والمسلمين- نعيشها هنا فى الشرق واقعًا حيًّا ممزوجًا كل لحظة بالتراب والدم والدُّموع والخراب. ولم يعدم هذا الاستعمار الجديد مَن يُفلسف له النظريات التى تبرر سياساته، كنظرية «صراع الحضارات ونهاية التاريخ والفوضى الخلاقة» ونظرية «المركز والأطراف».
ويشير فضيلته إلى أن التقدم العلمى لم يواكبه تقدم فى القيم والأخلاق تضبِط السلوك الإنسانى: «... إن التقدم العلمى المذهل- ولسوء الحظ- لم يواكبه تقدم موازٍ فى الأخلاق، وأن التطور التِّقْنى- خاصة فى مجال صناعة الأسلحة الفتاكة- جاء خالى الوِفاض من كل القيم التى تضبِط خطواته فى الاتجاه الإنسانى الصحيح...».
ثم يقدم صورة للقلق الذى اندس فى العالم بسبب ما تؤول إليه أحوال الإنسانية من قلق فيتحدث قائلا: (ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه مؤتمرنا هذا بمؤتمر عالمى للأديان عقد فى «لندن» عام ١٩٣٦م، وأسهم فيه شيخ الأزهر حينذاك «الشيخ مُحمد مصطفى المراغى» برسالة بعث بها إلى المؤتمر بعنوان «الإخاء الإنسانى والزمالة العالمية». وقد هالنى هذا التشابه: أولاً: بين القلق الذى كانت تعيشه «أوروبا» فى ذلكم الوقت وبين القلق الذى يعيشه عالمنا الآن، وثانيًا: هذا التشابه فى عناوين الرسائل بين الأمس البعيد واليوم الحاضر، فرسالة الشيخ كانت تبحث عن الإخاء الإنسانى والسلام العالمى، وهو المضمون نفسه الذى تبحث عنه رسالتنا اليوم، وهى تتطلع إلى عالم متكامل متفاهم...).
وهكذا صار السلام والأخوَّة العالمية مسؤولية ملقاة على جميع علماء الأديان بأن يبدأوا بتحقيق السلام والتفاهم بينهم أولاً كى ما يكونوا قُِدوة مؤثرة فى الآخرين: «من هنا، أيها الإخوة والأخوات، يبرُز الدَّور الخطير المُلقى على عاتقنا نحن- علماء الدين ورجاله- قبل غيرنا، لتدارك هذه الأزمة التى يختنق بها العالم اليوم، وطريق ذلك: أن الأخوَّة العالمية- التى راودت أحلام «الأزهر» فى ثلاثينيات القرن الماضى- ومازالت تراوده حتى هذه اللحظة- تبدأ من الأخوَّة بين رجال الدين أولاً، أو كما يقول اللاهوتى الكبير «هانز كينج»: لا سلام للعالم دون سلام دينى. وعليه فإن علماء الأديان اليوم، إذا كانوا ينتوون القيام بدَورهم فى التبشير بالسلام العالمى، وإحلال التفاهم محل الصراع، وتحقيق آمال الناس فى عالم متكامل متفاهم، فعليهم أن يحققوا السلام والتفاهم بينهم أولاً حتى يمكنهم دعوة الناس إليه...».
وكان ختام الكلمة هو التحرك نحو المستقبل، ونحن ناسون أى ضغائن، وفى يقين من تلك المسؤولية التى سوف يسألنا عنها الله: «إذا كان لى من أمل فى لقائنا هذا: فهو الرجاء فى أن ننسى الماضى، وما يبعثه هذا الماضى من كراهية وضغائن، وأن ننظر إلى الأمام، وأن نتيقن أننا لسنا مسؤولين أمام الله تعالى عما مضى، بل- وبكل تأكيد- سوف يسألنا عن زماننا هذا الذى نعيش فيه، وعن واجبنا تجاهه، وعن أمانتنا التى أؤتمنا عليها نحو خلق الله وعياله».
و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
نقلا عن المصرى اليوم