كتبها Oliver
الرهبنة إنسلاخ عن العالم و إتحاد بالله بما يستلزمه هذا الإنسلاخ من معاناة و تجرد و إستغناء و تضحيات.الرهبنة جدار متيناً ليس في الدير بل في القلب يحول بين الإنسان و محبة العالم بكل ما فيه و يجعل إشتياقاته محصورة في المسيح يسوع المحبوب. أما عالم الرهبنة فهو مختلف تماماً إذ هو جزء من العالم و قد يتسبب في الإفتراق عن الله و إتحاد مع العالم لذا ينبغي أن ندرك الفرق بين الرهبنة و عالم الرهبنة لأن الفرق شاسع و مظاهره مختلطة و ملتبسة عند الكثيرين .
ليس هذا المقال عن تاريخ الرهبنة لكن الرهبنة ليست وليدة العهد الجديد بل هى وليدة محبة غامرة تفيض في القلب فتقطع عهداً لا ينفصم مع الله في كل العهود.
كانت في بلاد كثيرة كالهند و الصين و قبائل أفريقية ما يشبه الرهبنة في شكلها لكنها رهبنة جسدية.هي فقط عزوبية بلا هدف روحي بل هدفها نفسى عصبي و البعد عن الناس فيها لا يصاحبه رغبة في خلاص النفوس.ليس هناك تلمذة و طاعة للمحبوب السماوي .إنها مجهود بشري بلا ثمر.حتي لو إدعي أصحابه أنهم ينالون قدرات خارقة أو صفاء للنفس أو العقل فهذه كلها يمكن إكتسابها بتمارين رياضية دون حاجة إلي هذا المسخ من الرهبنة.
بينما الرهبنة الروحية في العصور القديمة جعلت البعض يتركون العالم بما و من فيه تفرغاً لمحبة الله دون أن يكون ذلك عن إضطرار في الظروف أو نفور من الناس.
كان هابيل البار أول المتبتلين الذي تمحورت حياته بين محبة الله و عبادته المقبولة و بين محبة أخيه و عدم مقاومة الشر بالشر. حب وعبادة هذه هي الرهبنة.
مثله مثل يوحنا المعمدان و إيليا النبي و من قيل عنهم بنو الأنبياء 2مل 6 الذين أخذوا إذناً من إليشع النبي أن يبنوا لأنفسهم مساكن خاصة يتكرسون فيها لله.
كذلك الثلاثة فتية و دانيال النبي كانوا متبتلين و مكرسين أنفسهم لله.كانت الرهبنة فى ذات الوقت قراراً ذاتياً مصحوباً بتأييدات سماوية و هذا ما حدث مع كل الشخصيات التي أسماؤها وردت في هذا المقال.
رهبنة العهد الجديد
لم تبدأ الرهبنة بالقديس الأنبا أنطونيوس أب الرهبان لكنها أخذت شكلاً نظامياً من تأسيسه. كان السابقين لرهبنة الأنبا أنطونيوس يمارسون نفس حياة التوحد التي للعهد القديم حتي ترهبن الأنبا أنطونيوس و بدأ مثلهم ثم أرشده الله لتأسيس رهبنة لها نظام ولما كثر تلاميذه تأسست حياة التلمذة الرهبانية و تطورت المدارس الرهبانية إلي رهبنة الشركة علي يد الأنبا باخوميوس وصارت هناك مدارس رهبانية أخرى متنوعة للأنبا مكاريوس الكبير و القديس الأنبا شنودة لها أنظمة أوضح و قوانين حاكمة . كما كانت هناك جماعات رهبانية متفردة تعيش معاً و كثرت هذه الجماعات في الرهبنة السريانية و في مصر نموذج لها هم الأخوة الطوال تلاميذ القديس يوحنا ذهبي الفم علي أية حال أشكال الرهبنة المتنوعة إتفقت كلها علي مبادئ رئيسية هي
الرهبنة نذر محبة لله لا ينقطع – الرهبنة بدون تلمذة ليست مقبولة حتي المتوحدين بدأوا تلاميذ عند آباء روحيين ثم إنفصلوا عن الجميع بإرشاد دون عناد.حتي الرهبان السواح لهم نظام و مرشدين و تلمذة.
الرهبنة لم تنشغل بأية أعمال تجعل الراهب يفقد هدفه من الرهبنة.فالأعمال بسيطة جداً فقط لكي تحول بين الراهب و بين الشعور بالكسل و الفراغ.كانت الأعمال مثل الغزل اليدوي أو صناعة القفف من نباتات الصحراء المتاحة.أو جمع بعض النباتات الزيتية و إستخراج الزيوت منها بطريقة بدائية أو عمل صلبان من الأخشاب أو الجلود . العمل لم يكن من أجل الثمن بل هدفه الأساسى هو حفظ الراهب عمالاً و ليس بطالاً .كذلك لتنظيم حياته بين قليل من المجهود الإنساني وكثير من العبادة و العمل الروحي المهم أن الرهبنة حتي في توسعها علي يد القديسين الأبوين مكاريوس و شنودة صارت لها قوانين و هيكل إداري لكن الأعمال رغم الزيادة العددية للرهبان لم تختلف عما سبق ذكره لذلك ليس في الأديرة القديمة ما يثبت وجود أعمالاً ضخمة أو مزارع أو أنشطة تستلزم مجهوداً فائقاً لا يتفق مع ما تكرس الراهب لأجله. أضخم ما يمكن أن تجده في آثار أدوات الأديرة هو جرن كبير يستخدم لطحن الحبوب أو حجر كبير يستخدم لطحن النباتات الزيتية و غالباَ كان لصناعة زيت الميرون و مشتقاته.
عالم الرهبنة
أما عالم الرهبنة فهو أمر مختلف جداً عن الرهبنة.هو يتمسح في الرهبنة.و يأخذ من تواجده الجغرافي في محيط الأديرة صفة ليست من الرهبنة أو من حياة القداسة في شيء.لا توجد بركة خاصة لمنتجات الأديرة و لا توجد قداسة لمزروعات الأديرة.هذه كلها تبلي و تفسد شأنها شأن أية منتجتا في اي مكان في العالم. البركة و القداسة هي في الحياة مع الله هي في المسيح يسوع و ليس في المنتجات مهما كانت مصادرها. هذه الإستثمارات الشاسعة هي أحد أسباب ضعف الحياة الرهبانية في العصر الحديث .هذه هي العالم المحيط بالرهبنة.يخنق الرهبنة قبل الراهب الذي إنضغط وقته الروحي علي حساب التوسع في العمل التجارى..صار سائقاً و مديراً و محاسباً و ميكانيكياً و رئيس عمال أكثر مما صار راهباً.صار معظم وقته مع الناس بينما كان النذر هو محبة الناس و البعد عن كل الناس من أجل فضل معرفة المسيح.لكن الوهم يتسع أن هذه هي الرهبنة.لا أيها الأحباء ليست الرهبنة هي نفسها الإستثمارو لو قام به رهبان.ليست الرهبنة إنغماساً في مشاريع كل عائدها مالي و هو ما يجب أن يبتعد عنه الراهب.ليست الرهبنة مصانع و مذبح و مسلخ و أمور يفقد الفكر بساطته و نقاءه متي كان له دور فيها.
الرهبنة صلاة من أجل العالم.تبتل من أجل المسيح.نسك من أجل شركة الآلام.الرهبنة إتحاد بالله و إنفصال تام عن الناس.الرهبنة طاعة في الروحيات و سلام في القلوب.الرهبنة إستعداد دائم لتبعية المصلوب.و سعى دؤوب لإكتساب ثمار الروح القدس .الرهبنة موت عن العالم و رفض للعودة إليه .و هل يعود الأموات؟
و يبقي السؤال ..هل نغلق أنشطة الأديرة؟ هل نفقد هذه الإستثمارات التي بآلاف الملايين.هل نشرد العاملين بها ؟ هل نتركها حتي تسيطر عليها الدولة و تأخذ عوائدها و هي أصلاً من تبرعات الغلابة.هل تنتظر مصيرها حتي يأتي يوم نسمع عن قانون الأديرة الذي سيسلب الأديرة؟ ماذا نفعل؟
الجدار
1- نصنع جداراً يفصل بين الرهبنة الحقيقية و عالم الرهبنة الزائف. نفصل بين المشروعات و الأديرة.فيكون الرهبان في ديرهم بنفس أعمالهم البسيطة البدائية لأنهم ليسوا متبتلين لكي يستثمروا للشعب مالاً بل خلاصاً.فليكن لكل نشاط إستثماري مجلس إدارة علمانى كفء متخصص.سوف يستثمر أفضل من جميع الرهبان.و يترك للرهبان مشاغلهم الروحية.و أما العائد ليكن للدير نصيبه الذي يكفيه منه ثم للمقر البابوي نصيبه الذي يغطي به مسئولياته الشاسعة.دون إجحاف بحق العاملين فيه .
2- يتم عمل مؤسسة خيرية بإسم الدير صاحب النشاط الإستثماري.لأن القانون يعفي المؤسسات الخيرية من الضرائب و الحجوزات.و بالتالي نضمن أن يكون المشروع وقفاً علي الدير ذاته لأنه المالك الأصلي للمشروع.و نحصن المشروع من تلاعبات قانونية يمكن أن تجعله تحت سيطرة الدولة بمرتشيها و ناهبيها بحكم القانون الذي يرتبون صدوره في الخفاء.فليكن لكل دير مؤسسته الخيرية و التي من خلالها يضمن رقابته علي مجلس الإدارة الذي يدير المشروع.لكنه لا ينشغل بالأعمال و ليس له شأن بما يحدث داخل كل نشاط و لا هو مسئول عن إدارتها بأي طريقة.فيعود الراهب بسيطاً كما كان.تلميذاً كما يجب أن يكون.بعيداً عن الصرامة و القسوة التي تفرضها أحياناً طبيعة التعامل في ورش الأديرة و مصانعها.و يعود للراهب وقتاً و ذهناً نقياً للصلاة.و يكون مستعداً لنداء الخدمة بقلب تكرس لأعمال إلهية ولم يتلوث بأعمال دنيوية .
الجدار يعود إلي القلب قبل الدير.تهدأ المسئوليات و تتضح لكل راهب فيسأل نفسه كما سألها القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك قائلاً أرساني أرساني تذكر لماذا خرجت ( اي لماذا ترهبنت).
3- فليعد الراهب منهمكاً في درس الكتاب المقدس و إستخراج درره لنا.فلتكن للرهبان أبحاثاً و دراسات تهتم بتنقية الكتب الكنسية و ترشد التعليم الكنسي و تعتني بعلم اللاهوت الذي توقف نموه منذ قرون. فليكن بالرهبان نهضة روحية إن بدأت الرهبنة تنهض و تنفصم عن كل ما هو زائف و دخيل عليها.
فليعد الراهب مرشداً روحياً واعياً بدروب الروحيات .نريد رهبنة نقية حقيقية و هذا يشترط معالجة هذا المزج بين الرهبنة و العالم.و إلا فما الداعي للبقاء في الصحراء؟ما الداعي لصلاة الموتي التي تصلي علي الراهب؟ ما الداعي للقلاية إذا كان الراهب يستخدمها لنومه فقط؟ إن الرهبنة حالياً قليلها خمر و كثيرها ماء.
هوذا الماء فأين الخمر
يا إلهنا الحنون.قدورنا الستة فارغة. أعمال أسبوعنا و شهرنا و سنين حياتنا كلها عبرت مثل وهم,قد إمتلأنا بالفراغ لهذا نحسب أنفسنا ممتلئين و نحن مخدوعون.يا عريس النفوس.لقد دعونا أناس كثيرة إلي العرس.جاءوا إلينا و ليس إليك.حينها إكتشفوا و إكتشفنا أننا ليس لنا خمر.و أننا كالخواء و الهواء.إنهم بالداخل يمنون أنفسهم بالوليمة.ليس عندنا وليمة يا سيد.فخمرنا ماء.و ماؤنا متعكر من تراب القدور الفارغة.و الناس تتوقع مزيداً من البهجة.و ها أنت هنا.أمك الحنونة العذراء ترقبنا و لا تريدنا أن ننفضح.تستدعيك سراً .هل نستدعيك سراً.هل تأتينا سراً و تسكننا سراً و يكون فقط خمرك المعلن هو علامة عملك معنا.أمك الحنون حنونة مثلك.تصلي لأجلنا كي لا ننفضح.تتكلم بلساننا.ليس لهم خمر.في الحقيقة أيتها الأم الحنونة أننا ليس لنا أي شيء.لا بر و لا قداسة و لا محبة و لا رجاء و لا سلام .نحن لنا مظهر التقوى لكننا و التقوى منفصلان.قولي لإبنك ليس لهم شيء فكن لهم يكن عندئذ لهم كل شيء.الخدام في العرس تائهون حائرون.يتجنبون عيون المدعوين.يتجنبون أوامر اصحاب العرس.الخدام عاجزون عن الخدمة لكن العرس قائم.هو موجود فقط لأنك ربنا يسوع الحاضر فيه.هو موجود بوجودك وحده.و بدونك ليس هذا عرس بل فضيحة و عجز و شح و نقمة.فلا تغادر العرس لأن العروس عروسك أنت.و القدور الفارغة لن تبق فارغة طالما أنت هنا.و إن كنا نطلب خمرا للناس ستعطنا بحنوك خمراً سماوياً .