لسبب ما غير معروف، أو لعله معروف، لكن عجيب غريب مريب فريد، يجنح قطاع من المصريين إلى مشاعر فياضة وأحاسيس هفهافة تجعله يرى مرشح الرئاسة الأمريكى عن الحزب الجمهورى باعتباره حبيباً وصديقاً فاهماً للأوضاع متفهماً للأحوال. تجد هذا القطاع متحدثاً عن «ترامب» وكأنه «واحد مننا» لكنه لم يخمنا، أو «مننا وعلينا» شأنه شأن جيراننا الأحباء وأصدقائنا الأعزاء. وهناك فريق آخر، تستشعر من حديثه وتستشف من كلامه أن السيدة هيلارى كلينتون هى «ست العاقلين» و«أم الصابرين» وأخت عزيزة متفهمة لدواعى المصالحة، وحتمية الدمج، وإشراك كل فئات الشعب المصرى فى المشهد السياسى سواء كان من منطلق سياسى بحت أو بناء على خلطة سياسية دينية فخفخينية المنشأ.
ويبدو أن كثيرين من المصريين الأذكياء بالفطرة قد اعتمدوا على لغة الجسد ودرجة حرارة لقاء كل من السيد ترامب والسيدة كلينتون بالرئيس عبدالفتاح السيسى أثناء مشاركته فى الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضى. وأغلب الظن أن هذه الميول وتلك الأحاسيس والمشاعر لا ترتكز على أسس إلمام بقواعد السياسة الأمريكية أو ثوابت السباقات الرئاسية الأمريكية، بقدر ما هى نابعة من سخونة الأعوام الستة الماضية، وتحزبات وتخربات الربيع العربى الذى هب على المنطقة مخلفاً شكوكاً لا أول لها أو آخر ومخاوف من مجهول يتحكم فى المنطقة ويدفع بها نحو هاوية مرعبة. جريدة «وول ستريت جورنال» نشرت موضوعاً كان الغرض منه هو الربط بين الرئيس السيسى ودونالد ترامب بغرض وضع كليهما فى كفة واحدة، حيث «مقابلة ترامب مع السيسى تتواءم وإعجابه بالرجال الأقوياء ومن ثم تأتى غير مثيرة للاستغراب». ومضت الجريدة قدماً فى طرح وجهة نظرها حيث «تسببت مقابلة كلينتون مع الرئيس السيسى فى استغراب البعض فى مصر حيث تسود نظريات المؤامرة التى تعتبر السيدة كلينتون داعمة لجماعة الإخوان المسلمين ومن ثم عدوة للحكومة (المصرية) الحالية». وتضيف الجريدة فى موضوعها المعنون «كيف تشرح نظريات المؤامرة التى يعتنقها المصريون عن كلينتون جاذبية ترامب بالنسبة لهم؟»، «أن مصريين كثيرين، وبينهم مسئولون حكوميون مهمون، يعتقدون أن القيادى الإخوانى محمد مرسى فاز فى انتخابات الرئاسة فى عام 2012 بفعل ضغوط مارستها السيدة كلينتون». وبغض النظر عن تفنيد وشرح الجريدة لهذه النظريات «الوهمية»،
فإن ما ورد فى الجريدة يكشف عن عوار كبير فى الفهم الإعلامى الأمريكى لمجريات الأحوال فى مصر. فبينما الإعلام الأمريكى -وبالطبع البريطانى- وغيرهما ما زال يصر على أن «انقلاباً عسكرياً» حدث فى مصر فى 2013 وأطاح بالرئيس الذى أتت به الصناديق، إلا أن اعتراف هذا الإعلام نفسه بأن المصريين يعتنقون نظريات مؤامرة تضع السيدة كلينتون فى خانة الاتهام بمساندة الإخوان، يعنى أنهم يدركون أن المصريين كارهون للجماعة، سواء كانت قد أتت إلى السلطة بالصناديق أو بالأكاذيب. ونعود إلى المشاعر المصرية فيما يختص بمرشحى الرئاسة الأمريكية. وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أن الرئيس الحالى باراك «حسين» أوباما دغدغ مشاعر الشعب المتدين فطرياً فى عام 2009 حين باغتهم بـ«السلام عليكم» فى بداية خطبته. ولم يكتف بهذه الدغدغة، بل انقض عليهم بعدد من الآيات القرآنية فى الخطبة الشهيرة المعنونة «بداية جديدة». وهنا حلق المصريون فى آفاق رحبة من الأحلام الوردية والأمنيات المخملية عن الرئيس «حسين» ذى البشرة السمراء والملامح التى تشبههم، وانتهت بهم وبالمنطقة وبالعالم الحال إلى حافة الهاوية قبل أسابيع من رحيله الأبدى عن البيت الأبيض (إلا لو قررت السيدة ميشال زوجته الترشح للمنصب). ويعاود المصريون اتباع هوى المشاعر والانصياع لثقافة الأحاسيس الحامية بأن ترامب أفضل من كلينتون، أو حتى كلينتون أنسب من ترامب (بحسب الانتماءات السياسية والأيديولوجية)، دون النظر إلى أن السياسة عندهم لا تخضع لهوى،
أو تنصاع لصداقة، أو تمتثل لشعور متبادل بالاستظراف أو الراحة النفسية. جريدة «لوس أنجليس تايمز» الأمريكية عرضت وجهة نظر عربية أكثر عقلانية وأعمق فكراً. فقد استعرضت آراء البعض وتوجهاتهم فى المنطقة العربية حيث المقارنة بين كلا المرشحين الأمريكيين أشبه بالمقارنة بين «بيبس كولا» و«كوكا كولا» أو بين «سفن آب» و«سبرايت» فكلاهما ذو تركيبة سرية غربية، وكلاهما يبدو صورة طبق الأصل من الآخر، وإن كان كل منهما ينتمى لشركة منافسة ويحمل علامة تجارية مختلفة. وبعيداً عن أوهام اللوبى العربى الفتاك، والموقف العربى الصداح، والمصلحة العربية الموحدة التى يجب أن تظهر جلية فى أصوات الجاليات من أصول عربية فى الولايات المتحدة الأمريكية، علينا أن نكتفى بمواجهة الواقع دون تزييف. صحيح أن السيدة كلينتون ذكرت مراراً وتكراراً أن الجماعات والمجموعات السياسية التى تربط نفسها بالإسلام كتوجه أيديولوجى، يجب أن تكون متضمنة فى المشهد السياسى الفاعل باعتبارها مهمة لتحقيق التوازن المطلوب للمستقبل، وهو ما يقلق غير المؤمنين بفكرة الإسلام السياسى والحكم باسم الدين (كما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين بموديلاتها المختلفة)، لكن السيد ترامب واضح أيضاً فى ميوله ومعتقداته تجاه كل ما هو ليس «أنجلو ساكسون». ورأيه فى الإسلام والمسلمين واضح وضوح الشمس، حتى إن جمَّله بعض الشىء لاحقاً، لكن يبقى ما فى القلب فى القلب. الطريف أن المثل الشعبى «لا تعايرنى ولا أعايرك،
الهم طايلنى وطايلك» أثبت صحته بالتغطيات الصحفية الأمريكية عن ترامب وكلينتون والمصريين. «مقابلة الرئيس المصرى مع ترامب أغضبت المصريين»، «لماذا يدعم المصريون ترامب فى الانتخابات؟».. نموذجان لعناوين أمريكية عدة لا ترى إلا ما تود أن تراه.
نقلا عن الوطن