يقول الراحل العظيم جلال عامر: «قد نختلف مع النظام، لكننا لا نختلف مع الوطن. ونصيحة من أخ، لا تقف مع (ميليشيا) ضد وطنك حتى لو كان الوطن مجرد مكان تنام على رصيفه ليلاً». قال الراحل العظيم هذه الكلمات قبل أكثر من ثلاث أو أربع سنوات، وأتصور أن كلماته هذه لا تزال حية وفى أمسّ الحاجة لتذكير المصريين بها، خصوصاً الشباب الغاضب الذى يكيل الاتهامات ليل نهار ويشكو من ضيق ذات اليد أو يتحدث عن تجاوزات بحق شباب ويكرر الحديث عن تضييق شديد فى مجال الحريات، إضافة إلى استغلال الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التى يمر بها الوطن والمواطن فى الدعوة للخروج على النظام أو الترويج لثورة جديدة. صحيح أن هناك صعوبات اقتصادية وظروفاً معيشية ضاغطة على المواطن المصرى، وأن هناك فئة من المصريين تعانى بشدة من ضغوط المعيشة، وأن هذه الفئة تزداد وتتسع، وأن شرائح من الطبقة الوسطى تهبط إلى الشرائح العليا من الطبقة الدنيا، وأن الأخيرة تتسع على نحو بات يرهق الأسرة المصرية التى تحولت من الطبقة الوسطى المستورة إلى الطبقة الدنيا المكشوفة، كل ذلك صحيح،
ولكن الصحيح أيضاً أن البلاد تمر منذ خمس سنوات بظروف صعبة للغاية، كلما تغلبت على صعوبة من الصعوبات تفجرت أخرى، فنحن دولة تم فيها ضرب مصادر الدخل القومى الواحد تلو الآخر، بفعل الانفلات الأمنى بعد الخامس والعشرين من يناير، ثم ضرب السياحة، وتوقف الإنتاج الموجه للتصدير، ويجرى السطو على تحويلات المصريين من الخارج فى مناطق عملهم وبسعر مرتفع، كما تدنى دخل قناة السويس، وتم ضرب علاقة مصر بالدول الحليفة والصديقة ومصادر السياحة (روسيا ثم إيطاليا) وتضامن الاتحاد الأوروبى مع إيطاليا، وتواصلت ضغوط الولايات المتحدة، ولم تتوقف مؤامرات الأعداء (قطر وتركيا)، كما يجرى ضرب العلاقات المتميزة مع دول عربية (السعودية ومحاولات فى الطريق مع الإمارات)، وتقلصت مصادر البلاد من العملة الصعبة بما أدى إلى ارتفاع قيمة الورقة الخضراء أمام العملة الوطنية على نحو غير مسبوق، والنتيجة المنطقية لذلك ارتفاع الأسعار مع موجة تضخم واستغلال التجار للموقف والقيام بخلق سوق موازية تباع فيها بعض السلع بأسعار مرتفعة (الأرز والسكر على سبيل المثال).
أدى كل ذلك إلى حالة من الغضب الشعبى، ولكنه غضب نابع من ضيق ذات اليد، وعدم القدرة على تدبير أمور الحياة والمعيشة، ولكنه أبداً لم يكن من النوع الذى ولّد حالة من الغضب العارم ضد النظام ورغبة فى الخروج فى ثورة على النظام، لكنه غضب يطالب بتحركات عاجلة لوقف موجة غلاء الأسعار وضبط الأسواق، لا سيما أنه لا يوجد من وجهة نظر شعبية ما يبرر هذه الارتفاعات فى الأسعار وحالة الغلاء غير المسبوق، ولو كان الشعب المصرى يرى مبرراً وطنياً للتحمل لفعل ذلك عن طيب خاطر، فكثيراً ما تحمّل الشعب شظف العيش من أجل طرد المحتل من ترابه الوطنى وأيضاً حفاظاً على استقلال الوطن واستقلالية قراره.
ما يحدث اليوم هو أن الجماعة الإرهابية ورفاقها يستغلون الواقع القائم فى البلاد ويوظفون خلاياهم النشطة والنائمة من أجل زيادة حدة الغضب الشعبى وتوجيهه ضد النظام والترويج لحل يتمثل فى ثورة على النظام على غرار ما حدث فى الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، وهى دعوات مكشوفة ولن تنطلى على الشعب المصرى الذى لا تزال غالبيته تدعم النظام وتسانده ومستعدة للخروج دفاعاً عنه، ومهم جداً كشف هذه الدعوات الخبيثة التى تبحث عن منفذ لعودة الجماعة من جديد، وهى أضغاث أحلام، ورغم ذلك نقول إن مصرنا فى حاجة لتغيير شامل فى الحكومة، نريد حكومة جديدة برؤية اقتصادية إصلاحية شاملة، نريد رئيس وزراء يمتلك رؤية اقتصادية ولديه من الشجاعة ما يكفى للسير فى طريق الإصلاح، يصارح الشعب بالحقائق ويدعوه للتحمل لفترة محددة، يضع فى اعتباره أن يتحمل الأثرياء ثمن هذا الإصلاح، وأن يسند الفئات الضعيفة فى المجتمع بشتى الطرق، يعمل على ألا يدفع فقراء المصريين أى قدر من ثمن الإصلاح، وأن يتحمل من تمتع بخيرات البلد وجنى الملايين والمليارات ثمن مرحلة التحول والانتقال على طريق الإصلاح، وأن يعلم الجميع أن الإصلاح الاقتصادى والتنمية الحقيقية المستدامة هما المدخل للقضاء على الآفات الاجتماعية وعلى رأسها الفقر والجهل، وأن تحقيق ذلك سوف يمثل اللبنات الأولى لبناء نظام سياسى ديمقراطى حقيقى يحترم حقوق الإنسان ويُعلى من قيم المواطنة والمساواة وعدم التمييز. نحن ندافع عن بلدنا مصر فى مواجهة ميليشيات مسلحة حولت بلداناً عريقة مثل العراق وسوريا واليمن إلى أشلاء أوطان، فمهما كانت الصعوبات الاقتصادية دعونا نتحملها بصبر من أجل مصر الوطن الذى يعيش فى قلوبنا قبل أن يكون مجرد أرض نعيش عليها، بل إن راحلنا العظيم يقول: حتى لو كان الوطن مجرد رصيف تنام عليه ليلاً، فهو يستحق الدفاع عنه فى مواجهة ميليشيات تحيا وتنمو على الدماء والأشلاء.
نقلا عن الوطن