إذا نظرنا إلى الخريطة الثقافية لمصر المعاصرة، وإذا سألنا عن قضايا التراث والتجديد لابد أن نتوقف عند أحمد لطفى السيد، وإذا أردنا أن نجد إجابات لقضايا مازالت شائكة حتى الآن فى المجتمع فلا بُد أن نتجه إلى كتابات أحمد لطفى السيد التنويرية؛ فهو يحتل مكانة كبيرة فى تاريخ الفكر العربى المعاصر، وشغل مواقع هامة وعديدة من ضمنها رئيس ومدير الجامعة المصرية، ووزيرًا للخارجية، والعديد من المواقع الحيوية والتى كان لها أعظم الأثر.

 

قال عنه طه حسين يوم تأبينه بمجمع اللغة العربية " إن هذا الأستاذ الجليل قد أنشأَ فى مصر جيلاً جديدًا، ولست أنا وحدى الذى يقول هذا بل كثيرون من تلاميذه قالوه ومازالوا يقولونه، فهو أستاذ الجيل بغير منازع، وهو الذى علم الشباب المصريين حق الأمة فى أن تحكم نفسها بنفسها، وعلمهم أن مصر يجب أن تكون لأبنائها وأن تخلص لهم من دون الترك العثمانيين أصحاب السيادة حينئذ ومن دون الإنجليز المُحتلين "

 

ما سبق هو قول عميد الأدب العربى طه حسين عن أحمد لطفى السيد، وفى الواقع إذا تأملنا تاريخه نجده كان سياسيًّا وأكاديميًّا ومثقفًا واهتم بالكثير من المجالات وبصفة خاصة بمفهوم الثقافة والتعليم، ونحن الآن فى أمس الحاجة إلى استعادة أفكاره ومنهجه التنويرى رغم مرور سنوات طويلة على وفاته، ومن يرجع إلى التاريخ وإلى منهجه يجد أنه كان يميل إلى المعاصرة أكثر من ميله إلى التراث، وكان يميل إلى التجديد والتنوير ويدعو إلى ترجمة أمهات الكتب النافعة. 

 

لقد ترك لنا وللثقافة المصرية العديد من الكتابات والآراء والنظريات منها "المنتخبات " و "تأملات فى الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع " و" صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية فى مصر" بالإضافة إلى "قصة حياتى" وكتابات كثيرة لا يستغنى عنها المُثقف المهموم بمجتمعه وقضاياه؛ ومن ثم كانت لكتاباته أعظم الأثر فى الثقافة العربية، وفى الواقع الذى دفعنى إلى كتابة هذا المقال إنشغالى بأحوال الجامعات المصرية وخاصة أنى بنت جامعة من أعرق الجامعات ألا وهى جامعة القاهرة التى درستُ بها وأُدرّس فيها، وتتلمذت على أيادى أساتذة تنويريين عِظام، فقد استوقفتنى مواقف رئيس جامعة القاهرة الاستاذ الدكتور جابر نصار، وألح السؤال على ذهنى، هل يستعيد جابر نصار مواقف لطفى السيد فى إدراته للجامعة المصرية ؟ 

 

فالجامعة المصرية قد أثرت عبر تاريخها فى تشكيل جوانب ثقافتنا، وحينما نفحص تاريخ الجامعة المصرية لابد أن نتوقف ونضع فى اعتبارنا الدور الكبير الذى قام به لطفى السيد؛ فقد كان يُركز فى إدارته للجامعة على الجوانب الثقافية اعتقادًا منه بأن الجامعة مصدر إشعاع ولابد أن تؤدى وتقود الإصلاح الثقافى والفكرى، وهذا ما يستعيده الآن جابر نصار بعد أن انقطعت الجامعة سنوات عن الثقافة وعن المجتمع، وقام بدوره بإعادة تجديد الندوات الثقافية الفاعلة بين الأساتذة والطلاب تحت قبة الجامعة بل على مدار السنة الدراسية تُعقد لقاءات مفتوحة فى حوار للطلاب مع قادة الفكر والثقافة والفن، بل فتح د جابر نصار مسرح الجامعة للفنون بأنواعها بصورة مجانية للطلبة فالفن يُهذب المشاعر والأخلاق. ويجسد تاريخ الوطن 

 

وإذا رجعنا إلى أحمد لطفى السيد وإدارته للجامعة نجده يمثل موقفًا فكريًّا بالأمور العامة ويدع الجزئيات والتفصيلات جانبًا، لقد كان فى إدارته خير تمثيل للفكر المستنير، المفكر الواسع الأفق الذى يبتعد عن التزمت، المُفكر الذى ينظر إلى الجامعة على إنها مؤسسة ثقافية اجتماعية اولاً قبل كل شىء. وأتوقف بمثال عن موقف لطفى السيد التنويرى إذ كان يرى أن الثقافة خطًا مشتركًا للبنين والبنات، ومن هنا وجدنا لطفى السيد يرى إنه من غير المناسب أن يقتصر القبول بالجامعة على البنين فقط دون البنات، وبذل جهدًا كبيرًا ليفتح باب الجامعة للفتيات وهذه لم تكن خطوة سهلة فى العصر الذى عاش فيه لطفى السيد. 

فهل استعاد جابر نصار منهج لطفى السيد؟ نعم؛ عندما دافع عن فتيات مصر وقدم بلاغًا للنائب العام ضد أحد نواب مجلس النواب عندما نادى بالكشف على عذرية بنات الجامعة؛ فانتفض جابر بشخصه وبصفته للدفاع عن بنات الجامعة وللدفاع عن الاستنارة مقابل جهل هذا النائب، يدافع عن كرامة طالبات مصر والذى يخرج منهن المعلمة والطبيبة والمربية وكل فئات المجتمع، وفى اعتقادى هذا إدراكًا منه لدور الجامعة فى المجتمع لنشر التنوير ومحاربة العقول الضالة والتى تتمثل فى عجينة.

 

الجامعة لها دورها نحو التنوير والمواطنة وعدم التمييز من خلال علمائها واساتذته؛ فقد كان لطفى السيد يؤمن أن الجامعة لها دور فى تشكيل الثقافة المصرية ولها دور فى إثراء حياتنا بكل جوانبها، بل لها دور فى الدفاع عما يحفظ هوية الدولة المصرية. 

 

ودائما الآباء يُسلمون الميراث للأبناء؛ فقد وجدنا فى الأيام الماضية قرارًا جريئًا يدل على أن جامعة القاهرة عندما تعمل بمنهج التنوير الذى أُسس على يد الأوائل يمكن أن تقود المجتمع ، وجدنا قرار د جابر نصار لإلغاء خانة الديانة من الأوراق الرسمية للجامعة تطبيقًا منه لبنود دستورية استُفتى عليها الشعب المصري، وتدعيمًا لإرساء قيم المواطنة وعدم التمييز فى المجتمع. وهذه الخطوة كان لها أثر سريع بتأييد المجتمع المدنى لقرار جامعة عريقة، بل قررت نقابة المهندسين فى ذات الإسبوع أن تحذو حذو جامعة القاهرة فى إلغاء خانة الديانة من أوراقها الرسمية. 

 

نعم يستعيد الأستاذ الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة منهج لطفى السيد فى إدراته للجامعة وفى إحياء المنهج التنويرى الذى هو قلب الهوية المصرية الإصيلة.

 

نعم يستعيد جابر نصار منهج لطفى السيد التنويرى الذى يدعو إلى فتح النوافذ بدلاً من غلقها، وإلى أن تستعيد الجامعة دورها التنويرى والثقافى لبناء الإنسان المصرى ...واخيرًا تحية وتقدير لرجال مصر، تحية وتقدير لجابر نصار.