كتب: محرر الأقباط متحدون
صدرت العام الجاري رواية "ابن القبطية" للشاعر والكاتب المسرحي وليد علاء الدين، وأثار صدورها المتزامن مع تصاعد العنف باسم الأديان، اهتمام الأوساط النقدية الذين رأى بعضهم أن الرواية قدمت معالجة جمالية جديدة بجمعها بين عدة فنون سردية.
تبدأ رواية ابن القبطية بداية غير معتادة بتقرير طبي يحمل اسم المفحوص «يوسف حسين» وجهة الإحالة مستشفى نفسي، حسبما أفادت المصري اليوم.
"يعاني المذكور من حالة متقدمة من الفصام (الشيزوفرينيا) تتجلى في مجموعة من الأعراض المتقدمة كتوهمات الاضطهادية والهلاوس السمعية والبصرية. التجأنا في علاجه إلى الأدوية وجلسة كهربائية على المخ وتم الاستعانة بالكتابة كوسيلة لإفراغ الشحنات الكهربائية الزائدة على هيئة كلمات.. كلمات يكتبها في كراسته الزرقاء التي لا يريد الكتابة إلا بهاط".
بعدها ينطلق الكاتب وليد علاء الدين في السرد مستخدما لغة رشيقة سهلة مفعمة بالأحاسيس التي تجعلها في بعض الأحيان قريبة من اللغة الشعرية ومازجا بين أسلوبين للكتابة باستخدام ضمير الغائب أحيانا وضمير المتكلم في أغلب الأحيان خاصة عندما ينقل عن الكراسة الزرقاء لبطل الرواية المأزوم بأزمة الهوية المزدوجة في وسط اجتماعي فاقد للرحمة والتسامح.
تثير الرواية الاهتمام نظرا لأنها تتزامن في توقيت صدورها مع تصاعد العنف باسم الدين وتقدم معالجة جمالية وأدبية جديدة للقضية التي تؤرق المجتمع المصري منذ أزمنة قديمة.
تدور أحداث الرواية حول يوسف حسين المولود لأب مصري مسلم وأم قبطية وترصد أزمته النفسية والعاطفية التي تتجلى في رفض أسرة الحبيبة (أمل) تزويجها له بداعي أن أخواله من «النصارى».
إنها معالجة جمالية لقضية شائكة طالما أرجأ المجتمع المصري النظر فيها لأجيال وراء أجيال.. يقول الأديب والشاعر المصري وليد علاء الدين إنه يحاول التصدي لقضية الإقصاء والعنف والتصنيف على أساس ديني بهدف تمرير هذا القلق إلى الوعي العام ليتحول إلى مادة للتفكير على أمل أن نجد حلولًا له.
إن الكتابة الإبداعية كما تتكشف في النص الذي يقع في 184 صفحة ليست رد فعل مباشرًا لحدث.. إنما محاولة لمعالجة القلق "تجاه شكل وجودنا وشروط استمراره".
بطل الرواية شاب مصري من أب مسلم وأم مسيحية تحابا وتزوجا.. يكتشف كلما تقدم به السن أنه ضحية هذه الهوية الدينية المزدوجة التي يحملها.. بسببها يفقد حب حياته: أمل ابنة الأسرة المسلمة المحافظة. فبرغم قصة الحب الطويلة لتي جمعت بينهما منذ الطفولة إلا أن "الزواج" أمر آخر فأهلها لا يقبلون أن تتسلل نطفة مسيحية إلى دماء عائلتهم.
لم تتوقف مأساة يوسف عند فقده لأمل وزواجها من منافسه «منصور» بائع الذهب الذي يمثل الوجه النفعي للحياة. فقد عانى كثيرًا خلال فترة دراسته الجامعية من محاولات استقطاب وصلت إلى حد تهديد الحياة من الطرفين اللذين يشكلان هويته الدينية.. فالأخ منذر وأتباعه من الجماعات الدينية المتشددة يحاولون إقناعه بدعوة أمه القبطية إلى نور الإسلام حتى لا تموت كافرة كما يريدونه عينًا لهم على مجتمع أخواله من النصارى.
في المقابل يظهر في حياته جورج كامل رسول الكنيسة إليه الذي يغريه بالمال والنفوذ إذا نجح في لعب دور العميل المزدوج داخل الجماعات الإسلامية المتشددة لكشف حركات أسلمة بنات الأقباط وإغرائهن للخروج من الدين المسيحي.
عندما تتزوج أمل بمنصور يدخل يوسف في أزمة نفسية تقوده إلى مرض الفصام وتطارده هلاوس وهواجس سمعية وبصرية. يستغل طبيبه المعالج حبه للكتابة فينصحه بكتابة هذه الهلاوس واقتناصها في كلمات. وهو ما يفعله يوسف طوال الرواية.. فيكشف لنا عن جوانب شديدة التعقيد في شخصيته نتيجة للهوية الدينية المزدوجة.
ويفاجئنا بقصة وقوعه فريسة لإغواء امرأة يهودية من أصل مصري. هذه المرأة بدورها ابنة أسرة يهودية تم طردها من مصر وعاشت في إسرائيل. عانت هي الأخرى أزمة هوية. فالأب يصنف نفسه مصريًا ثم يهوديا بينما الأم في رد فعل عنيف على طرد المصريين لهم تمسكت بالدين كهوية وحيدة. الفتاة واسمها «راحيل» رفضت التصنيف الديني وتمنت لو تزوجت برجل يجمع بين الديانتين الإسلام والمسيحية لتنجب منه فتاة تستقبل العالم بالديانات الإبراهيمة الثلاث!.
يكتب يوسف أنها تعرفت عليه من خلال زياراتها لمنصور الصائغ جاره ومنافسه على أمل وتخطط للانفراد به فتوفر له عملا في أحد المنتجعات السياحية في شرم الشيخ.. وهناك تراوده عن نفسه لتحظى منه بحلمها- النطفة ذات الهوية الدينية المزدوجة ليتخلق منهما معا الرحم الذي يجمع الديانات الإبراهيمية في معين واحد.
ولا يعرف الطبيب النفسي ولا القارئ ما إذا كانت قصة راحيل من خيال يوسف.. ربما يكون قد صنعها في محاولة عبر اللاوعي لمواجهة أزمته أو الهروب منها.
يقول الكاتب إنه يريد أن يرد الإنسان إلى صورته الأصلية «إنسان» بعيدا عن التصنيفات الدينية والفلسفية مضيفا أن ذلك لا يعني القضاء أي من هذه الأديان أو الفلسفات، ولكن المقصود احترامها جميعها طالما تحترم شرط الإنسانية.
لم يحدث هذا في الرواية.. بل على العكس احتمى كل إنسان داخل تصنيفه وتحصّن في مواجهة الآخر.
ويتجلى هذا في الحوار بين يوسف ورسول الكنيسة.. عندما يقول له هذا الرسول: «إنها لعبة الوجود.. وجود كل منا منتقص بوجود الآخر» فيرد يوسف «أنا وجود مشترك» ليجيبه الرسول «لن نقبل بهذا».
وتتضح معالم هذا التنافر المجتمعي أو التحصن كل في معسكره في قول يوسف عن أبيه وأمه «حاربت الدنيا من أجله وحارب من أجلها ناسه أما أنا فقد ضاعت مني أمل لأنهما نجحا في حربهما وتزوجا وعلقا على جدار غرفتهما آية الكرسي ملاصقة للصليب»!
وعلى النقيض من هذا تقف راحيل التي هي في الغالب من وحي أوهام يوسف وتهيؤاته تتحدى ذلك الواقع المرير وربما تقدم حلا «رمزيا» على طريقتها الخاصة وعلاجا لكل الصراعات لو توافق الناس على تحطيم الصور النمطية التي يحتفظ بها كل معسكر تجاه الآخر.
تقول راحيل منتقدة أمها المتشددة وربما كل المتشددين من قومها وفق ما جاء في مدونات يوسف حول العداء والكراهية اللذين يستشعرهما اليهود «تقول ماما إن المشكلة في المسلمين.. هي دائما ترى المشكلة في الآخر.. ولكن لم يكن هتلر مسلما.. ولم يكن الإسلام موجودا عندما طردهم الفراعنة. لقد تغيرت اليهودية نفسها منذ ذلك التاريخ. وانقسم أحبارها ولكن ظلت كراهية العالم لهم هي القاسم المشترك بينهم.»
الرواية في معظمها عبارة عن كتابات يوسف حسين (ما كتبه بطلب من المعالج، ونماذج من كتاباته السابقة على خضوعه للعلاج) أرفقها طبيبُه النفسي بتقرير يشير فيه إلى فشل خطط العلاج بالأدوية والصدمات، والتحليل، وحتى عن طريق اللجوء للكتابة، طالبًا -بصورة غير مباشرة- عرض الأمر على أصحاب الخبرة والمشورة على أمل فهم هذه الحالة والتفكير في علاج لها.
في رأي الكاتب أن علاج يوسف -الذي يرمز إلى أزمة المجتمع المصري- أكثر تعقيدًا من مجرد التوصيف «ولن تعالجه كتابة واحدة إنما هو في حاجة إلى تيار وعي يُعلي من شأن الإنساني.»
اختار المؤلف الأسماء بعناية شديدة.. راحيل.. يوسف.. أمل.. لكل اسم دلالاته وإيحاءاته الذهنية والتاريخية والفكرية.
يقول الكاتب إن الحديث عن أزمة التصنيف الديني لا تكتمل دون الحديث عن الديانات السماوية الثلاث. فهي –وفق صيغة أحدثهم – رسالة واحدة ممتدة.
ويضيف «شخصية راحيل في الرواية توازي شخصية يوسف فهي شخصية شديدة التعقيد في تركيبتها النفسية لكنها امتلكت وعيًا أحدّ من وعي يوسف. وهو ما أنقذها من الوقوع في براثن المرض النفسي لكنها في المقابل انتقلت إلى مساحة غريبة من الجرأة في تكسير التابوهات» وانتهاك المحرمات بلا استثناء.
ومضى قائلًا «لم أقصد باختيار المرض النفسي نهاية ليوسف أنه شخص هش أو انهزامي. فالناس يعيشون معلقين في بطاقات تصنيفية كالبضائع. يوسف اختار أن يعتزل هذا العالم.. هل هذه هشاشة؟ الهشاشة أن يضطر الإنسان للتعايش مع عالم يسير على عكس قناعاته، فيضطر إلى اختيار بطاقة تصنيفية يعيش متواريًا خلفها.. أو أن يعيش كما يريد ويورط الآخرين (الأبناء) في مشكلاته، وهو ما فعله والدا يوسف!»
يوسف لم يستسلم بل قام بدوره.. شهد بأمانة على العالم الذي يرفضه ثم انسحب منه.. اختار لنفسه ما وصفه هو في روايته بـ«الصمت المقيم». اختار الكاتب المرض النفسي كحل فني وحيد لإدانة العالم.. إنه أمر يُشبه الاستقالة المسببة.. أو كما يقول يوسف ملخصا موقفه من الحياة «أترككم حتى لا أتحول إلى شبيه لكم، ولكنني أترك للعالم شهادتي عليكم» في صرخة ربما تحيي رفات ضمير مجتمعي غارق في الصمت.