«أنا البحر فى أحشائه الدر كامن.. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى».. بهذا البيت الذى اختاره بعناية من قصيدة اللغة العربية للشاعر الكبير حافظ إبراهيم، نسمع صوت الشاعر الكبير فاروق شوشة الهادئ يوميا على مدار 48 عاما، حارسا للغة العربية، ومدافعا عن جمال معانيها فى دواوين الشعر العربى، برشاقة الأسلوب ومتعة العرض الإذاعى.
«المصرى اليوم» التقت «شوشة» فى حوار خاص، شاعرا وإذاعيا ومثقفا، فما كان منه إلا أن فتح خزائن الذكريات والأسرار بل أطلق سهام اعتراضه على الكثير من الأوضاع الراهنة. وكان الشاعر الكبير ألقى قصيدته بعنوان «خدم» فى معرض الشارقة الدولى للكتاب العام الجارى، فبدت وكأنها كشف حساب ومراجعة قاسية لما آل إليه المشهد الثقافى من فساد وترد، ومع هذا الحوار اختص شوشة «المصرى اليوم» بالنص الكامل للقصيدة الكاشفة، وإلى نص الحوار:
لو علمت أن «عبدالناصر» يستمع لـ«لغتنا الجميلة» ربما قدمته بـ«شكل أسوأ»
■ لماذا وجهت قصيدة «خدم» للمثقفين فى هذا التوقيت؟
- كتبت هذه القصيدة نتيجة تأمل طويل فى أوضاع الثقافة والمثقفين طيلة 20 عاماً، وكان إحساسى الدائم أن الوضع يتردى عاما بعد آخر، ولفت نظرى أمر طريف، هو أن رؤساء المؤسسات الثقافية على مدار 20 عاما هم من يكتبون عن الفساد فى الثقافة والمؤسسات الثقافية، كأنهم لم يكونوا رؤساء هذه المؤسسات يوماً، فكتبت القصيدة لأقول لهم أنتم صناع هذا الفساد، وعباقرة هذا التردى، وأنتم من ألغيتم القيم الصحيحة والنبيلة، وجعلتم من المؤسسات مجرد كيانات لا تقدم ولا تؤخر شيئاً، ثم تأتون لتقولوا إن الثقافة كان ينقصها كذا وكذا، أين كانت ضمائركم وعقولكم؟
الأمر الثانى: أن المثقفين أنفسهم لم يسلموا مما يوصف به الإنسان المتهالك، المتطلع، المستعد، أن يبيع أى شىء من أجل أن يغنم منصباً أو وظيفة أو وضعاً أو شهرة أو جائزة أو دوراً، وتحت هذه العناوين رضخ كثير منهم للواقع الذى كان موجودا ولايزال. وظنوا أنهم جماعة الشطار، لأنهم يحققون الغنائم، أما غيرهم من العازفين أو المحبطين أو الصامتين أو العاكفين فى بيوتهم أو المهاجرين خارج بلادهم، هؤلاء هم الأغبياء الذين لم يحسنوا لغة العصر، ولم يستفيدوا من عطايا السلطان، ولم يقتربوا من النفوذ أو يحصلوا على منصب، ولم تتردد أسماؤهم بمناسبة أو غير مناسبة، ولم تظهر صورهم فى الصحف والقنوات.
أما الصنف الأول فهم أصحاب هذه النكسة الثقافية الحالية بتكوينهم وبأطماعهم وأوضاعهم، بل وجدنا بعض المثقفين حين يجيئون كوزراء لا ينشغلون إلا بالتفرغ لتصفية حسابات قديمة وأصبحت كلمة مفكر تطلق على من ليس له أدنى حظ من التفكير، وقد يكون مفكراً كبيراً وعندما تسأل مفكرا فى ماذا ومفكر كبير بأمارة ماذا؟ فلا يجيب.
■ وهل هناك سبيل لإصلاح حال المثقفين العرب؟
- المثقفون محتاجون إلى مراجعة أنفسهم أولا، وتحديد مسؤوليتهم عما نحن فيه لا أن يعتادوا الشكوى أو يلقوا بالأسباب على عاتق الآخرين، والمؤسسات والسياسات، وعلى هذه الخلفية ووفق هذه الرؤية كتبت قصيدة «خدم» لأقول لهم: أنظروا فى مراياكم لتروا سوءاتكم معروضة أمام أعينكم، فتعرفون ما هى حقيقتكم يا من أفرطوا فى الكذب والخداع والمساومات والنفاق والشللية إلى كل هذه الأمراض التى أصابت مجتمع المثقفين، ولذلك عندما ألقيت القصيدة فى ندوة بمعرض الشارقة الدولى للكتاب، استطعت أن أصنع وخزة فى ضمير المثقفين المصريين والعرب بصفة عامة، لأننى كنت أتكلم عن الذين يمشون يضربون الأرض بأقدامهم كالحيوانات الكبيرة فى الغابة وهم مجوفون، والذين يتباهون بجوائز سيئة السمعة، ولم تكن قصيدة «خدم» هى الوحيدة التى كتبتها فى حال المثقفين، لكنى كتبت قصائد «شبيه زماننا» و«قزم» و«وجوه فى الذاكرة» انتقادا لوضع الثقافة والمثقفين المجوفين فى مجتمعنا العربى.
■ تحدثنا عن الثقافة والمثقفين بصفة النخبة فماذا عن الثقافة بمفهومها المعرفى الأشمل والتى يتسع مفهومها ليضم التعليم والإعلام وروافد المعرفة الأخرى فضلا عن المعارض والمؤتمرات والفعاليات؟
- الثقافة الحقيقية مكانها فى المدرسة، لأن المعارض والمؤتمرات هى احتفالات ثقافية، لكن المدرسة هى التى تغذى فكرة القراءة عند الطفل، والثقافة تبدأ بالقراءة، فلا يعقل أن يظل التلميذ يدرس طيلة العام الدراسى كتاب المطالعة الذى يُقرأ فى ساعتين، فى الوقت الذى من الممكن أن يقرأ الطفل خمسين كتاباً فى العام، ولذلك فإننا وجدنا حاكم دبى محمد بن راشد يطلق مبادرة تحدى القراءة لتلاميذ المدارس على مستوى الوطن العربى، والتى تهدف لقراءة 50 مليون كتاب فى العام، بحيث يشارك مليون طفل، يقرأ كل منهم 50 كتابا، وهى مبادرة ممكن أن تحيى الثقافة من جديد عربيا، خاصة أن الأمر ليس صعباً فكتب الأطفال بسيطة وعدد صفحاتها قليل، ومعظمها مزود برسومات وجاذبة لحب القراءة.
■ هذه الإجابة تدفعنا لسؤالك عن رأيك فى أدب الأطفال وثقافة الطفل فى مصر؟
- لن يكون هناك ثقافة للطفل المصرى، إلا بضم وزارتى الثقافة والتربية والتعليم فى وزارة واحدة، لأن وزير التعليم لابد أن يكون وزير الثقافة الحقيقى ومثقفا حقيقيا لديه معرفة تربوية وثقافية عامة وشاملة، فالمدرسة يجب أن تصبح مؤسسة ثقافية وتعليمية، فبغير ذلك لن ننتج حياة ثقافية من خلال ندوات ومؤتمرات ومهرجانات يحضرها القليل أو حتى الكثير من الناس، بعد أن أصبحت المدرسة مجموعة معارف فقط، والمفارقة أن التلاميذ يجمعون هذه المعارف من الدروس الخصوصية.
■ وماذا عن دور قصور الثقافة المنتشرة؟
- الرهان على قصور الثقافة لن يكون مُجديا، فى ظل العدد القليل من قصور الثقافة مقابل القرى والمدن فى مصر، كما أن الأمر يتعلق بكيفية وصول الثقافة للطفل فى مدرسته، وليس انتظار ذهابه لقصور الثقافة، فالإمارات أصبحت على رأس المعرفة العربية لأنها قضت وقتا طويلا للوصول للعالم المعرفى، وتوصيله لكل المجتمع كخدمة معرفية وتثقيفية حتى أصبح مجتمعا عربيا نموذجيا مستقبليا، نرجو أن نتعلم منها، فعندما نقول مثلا إن الشارقة أصبحت عاصمة الثقافة العربية، فإن هذا لم يتحقق لها بالمؤتمرات والمهرجانات فهذا مظهر خارجى، ولكنها استحقت ذلك بسبب ما حققته فى البنية التحتية للثقافية، من خلال مدارس نموذجية بمناهج تعليمية ثقافية، وجامعات مرتبطة بالمعارف العربية والغربية تنقل الثقافة للطلاب والمواطنين، وما بها من مسارح ودور عرض سينمائى، وما تطلقه من المبادرات الثقافية العديدة، وهو ما تسعى إليه مصر، من خلال مشروع مماثل، لتكون الأقصر عاصمة ثقافية فى يوم من الأيام.
ويتعين أن تكون هناك مبادرة بشكل فورى بأن تكون المدرسة هى قصر الثقافة وأن يكون قصر الثقافة هو المدرسة، وأنا شخصياً كنت قد طرحت مبادرة على رئيس شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، أن يتم توزيع تسجيلات برنامج «لغتنا الجميلة» على المدارس والطلاب والمعلمين كهدايا، لأنها ستعلمهم النطق الصحيح للغة العربية، بطريقة بسيطة ومحببة وبشكل غير إلزامى، كما أنها ستجعلهم يتذوقون الأدب وستنمى قدرات المعلمين لغويا وأدبياً فى أوقات فراغهم، وتمنيت الاستفادة من هذه التسجيلات التى تقدر بالآلاف، حتى تقدم للنشء مادة بها تسلية ومتعة وقراءة وتعليم فى آن واحد، لكنه لم يحدث.
-إلى أى حد تعتقد أن برنامج «لغتنا الجميلة» أثر فى ثقافة وذوق المواطن العربى لغويا؟
- أثر البرنامج على مدار 48 عاما بشكل كبير فى أبناء جيلى، الذين مازالوا يستمعون للبرنامج بشكل دائم منذ 67 وحتى الآن، إذ شكل وعيا لجيل كامل أصبح عنده إلمام بديوان الشعر العربى كله، لأنه لا يوجد كاتب أو شاعر صاحب عبارة جميلة لم يذكر مرات فى تسجيلات البرنامج، لكن الآن فى ظل اهتمام الجيل الحالى بالتلفزيون، أصبح البرنامج يشكل وعى من يهتمون بأمور الشعر والأدب.
الطريف أنى عرفت من الدكتورة هدى عبدالناصر فيما بعد، أن الرئيس الراحل عبدالناصر كان يستمع للبرنامج كل يوم، لأنه كان ينهى يومه بنشرة الحادية عشرة، وكان البرنامج يسبق النشرة بعشر دقائق، ولو كنت أعلم ذلك لربما كنت قدمته بشكل أسوأ، لأن البرنامج كان سيفتقد للتلقائية ولن أكون على طبيعتى لمجرد التفكير فى أن عبدالناصر يستمع له.
■ ما ملابسات ميلاد هذا البرنامج؟
- كان هذا فى أعقاب نكسة 1967 وكان أحد المسؤولين اعتبر أن سبب النكسة هو عدم اتصالنا بجذورنا الثقافية فى القيم والمعرفة والثقافة والتراث العربى، ففكر محمد محمود شعبان «بابا شارو» فى برنامج يعيد الصلة بكل ذلك، واستدعانى وحدثنى فى الأمر وفكرنا كيف يمكن لبرنامج ثقافى ولغوى وأدبى خالص أن يقدم مادة جاذبة ومشوقة للمستمع بكافة مستوياته المعرفية دون أن يشعر أنه فى مدرسة تلقنه مواد تعليمية، وظللت أذهب كل يوم سبت لتسجيل حلقات الأسبوع كاملة فى ماسبيرو، ولم يتوقف البرنامج إلا أثناء حرب أكتوبر بسبب ضم الإذاعات وكان البرنامج بمثابة دليل المصريين والعرب الباحثين عن نشرة أخبار الحادية عشرة لضبط موجات إذاعة البرنامج العام قبل النشرة بعشر دقائق، وأصبح البرنامج جواز سفرى فى كل البلدان العربية، حتى كانوا يشيرون إلى فى كل مكان بأننى «صاحب لغتنا الجميلة»
ولن أنسى ما حييت أن أول من حدثنى على نشر تسجيلات البرنامج فى كتاب، كان الناشر البسيط والعظيم فى نفس الوقت مدبولى والذى سألنى «كيف نحول لغتنا الجميلة إلى كتابة» فقلت له إن الأمر مجهد ويحتاج تجميع أكثر من حلقة، فقال لى خذ وقتك واستغرق الأمر 6 شهور لأجمع هذا الكتاب.
الفضائيات غيبت الوعى العربى والعمل فيها ليس شرفا.. و مواجهة تحكم السلطة فى ماسبيرو بمجلس مجتمعى
■ خلال هذه المسيرة الطويلة والغنية لهذا البرنامج لم يبقَ شاعر إلا وعرضت إنتاجه الشعرى فمن هم أشهر وأشعر شعراء العربية الذين أشرت لهم؟
- كل شاعر هو شجرة فى حديقة الشعر العربى، لا أستطيع أن أقول هذا أو ذاك، لأن الشعر ليس نظما وقوافى ومعانى فقط، هناك رسالة وقضية إنسانية يقدمها الشاعر من خلال شعره غير تفاصيل أخرى، وأنا شخصياً عدت لقراءة المتنبى عشرين مرة وكلما عدت وجدت الجديد، فأنا أعتبره أكثرهم تمكنا فى الحبكة الشعرية وإحكاما وإتقانا فى الصنعة الشعرية، ولغته تجعلنى أقول هكذا خلقت اللغة، وهكذا خُلق الشعر.
■ هناك تجربة إعلامية غنية أخرى لك وهى برنامجك التليفزيونى «أمسية ثقافية» نريد أن نتوقف أمام ملابسات ميلاده وأبرز التحديات التى واجهته؟
- بدأ التليفزيون بث «أمسية ثقافية» على القناة الأولى، فى عهد السيدة تماضر توفيق، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقتها، التى راحت تطور التليفزيون وتضيف له محتوى ثقافيا، واستمر البرنامج 30 عاما، بعدما تم نقله للقناة الثانية، خاصة بعدما اعتبر التليفزيون القناة الثانية هى الثقافية وقتها، فيما اعتبر القناة الأولى سياسية، وقدمت 150 حلقة بداية من توفيق الحكيم وحتى أصغر أديب فى ذلك العصر، أما عن التحديات فلقد كانت تجربة أمسية ثقافية أصعب بكثير من برنامج لغتنا الجميلة، خاصة أنه عمل جماعى به معدون وفنيون ومخرجون وغيرهم ولا أعتمد فيه على شخصى كما فى الإذاعة.
■ فى إحدى حلقات البرنامج استضفت الشاعر أمل دنقل قبل وفاته بأيام فى حلقة تعد الوثيقة الإعلامية الوحيدة والظهور الإعلامى الوحيد له فكيف تم ذلك؟
- نعم، بالفعل فلقد كانت هذه الحلقة من أصعب حلقات البرنامج، وأمتعها، إذ قمنا أنا وعبدالرحمن الأبنودى بسرقة أمل دنقل من مستشفى الأورام قبل وفاته بأيام، دون علم الأطباء مرتين، لتسجيل الحلقة التى أردنا من خلالها الحصول على أى صورة تليفزيونية لأمل قبل وفاته، لأول وآخر مرة فى حياته، وكان خروج دنقل أمرا مستحيلاً، لكنه كان مدركاً أنه سيتوفى قريبا، فوافق على اللقاء فى ظل معاناته من المرض الشديد فى الغرفة 208، والتى كتب عنها ديوانه الشعرى الأخير، وعقدنا العزم أنا والأبنودى وسرقناه من المستشفى مرتين، وكان من سوء حظنا فى المرة الأولى أننا فوجئنا بأن أستوديو التصوير به صيانة فى اليوم المحدد للتسجيل، فقررنا تكرار الأمر مرة أخرى، الأمر الذى استغرق ساعتين فى كل مرة، وكنا اتقفنا مع الكاتبة عبلة الروينى زوجة أمل أن تنتظر فى الغرفة لتغطى على الأمر، بعدما اخترنا وقتا لا يمر فيه الأطباء بالغرف وتم التسجيل مع أمل بحضور الأبنودى، وكان أمرا ضروريا جدا رغم اختلافهما فى الكتابة الشعرية، لسببين أولهما أنهما يحملان ذكريات طفولة وصبا واحدة، وثانيهما ألا نثقل على دنقل فى مرضه الشديد، وأصبح هذا البرنامج الأثر الوحيد فى التليفزيون لهذا الشاعر الكبير.
■ ماذا لو عُرض عليك تقديم برنامج كـ«أمسية ثقافية» أو «لغتنا الجميلة» من خلال القنوات الفضائية؟
- كيف أفكر فى ذلك، وأنا كلما استطلعت رأى كل ما حولى أجده ينتقد ما يحدث فى الفضائيات، وأقول لك إن العمل فى الفضائيات لم يعُد يشرّف صاحبه، القنوات الفضائية فى مجموعها عملت على إلغاء الوعى العربى كأنها تنفذ مؤامرة ضد العقل العربى، وإن كان فيها القليل ممن لهم قيمة، كل من يعملون فى القنوات الفضائية يعملون دون دراسة أو تدريب حقيقى لطبيعة العمل الإعلامى الصحيح كما يحدث فى العالم، بداية من البرامج السخيفة التى تتحدث عن الجن والشعوذة، وحتى برامج الخطابة الزاعقة المؤيدة تأييداً أعمى أو التى تقدم معارضة عمياء، وأنا أرى أن الفساد فى هذه القنوات يكمن فى أنها تعبر عن مصالح أصحابها من رجال المال والأعمال، وهو الفساد المطلق.
■ وكيف يكون عندنا إعلام يقدم وعياً حقيقياً، فى الوقت الذى أصبح فيه إعلام الدولة مريضا ومصابا بالتخمة الوظيفية ويفتقد الأفكار الخلاقة والجاذبة دون إسفاف، فهل أنت مؤيد للآراء التى تطالب بإلغاء وزارة الإعلام؟
- إلغاء وزارة الإعلام ليس الحل، دون تطوير اتحاد الإذاعة والتليفزيون بمجلس مجتمعى، لقد بقى ماسبيرو على جوهر ومفهوم وزارة الإعلام، فمازالت عمامة الوزارة على مبنى ماسبيرو التابع للسلطة، ولا يخالف الحكومة فى شعرة، فإلغاء وزارة الإعلام مطلب قديم، لكن البديل أن يكون هناك مجلس مجتمعى من خارج الوزارة يدير ماسبيرو، كما حدث فى هيئة الإذاعة البريطانية، بحيث يمثل فيه التيارات المختلفة من الأحزاب والنقابات والمفكرين والفنانين ويكون للحكومة صوت بين هذه الأصوات، فيكون مجلسا غير حكومى، ولا يهم أن يكون اسمه مجلسا وطنيا للإعلام ولا غير ذلك، وإنما أن يكون الإعلام إعلاما مجتمعياً، ويكون صوت الحكومة بالمجلس جسر تواصل بين الحكومة والمجلس، لأن الأمن القومى قضية، والمشروعات القومية قضية، ينبغى أن يمثلها من يمثلها فى المجلس بجانب الاعتبارات المجتمعية الأخرى.
■ ما تقييمك لدور مجمع اللغة العربية فى ظل التردى اللغوى وتدنى الوضع الثقافى واللغة العربية فى مجالات الحياة؟
- مجمع اللغة العربية مؤسسة تخطيط لا تنفيذ، فنحن لسنا وزارة تعليم ولا ثقافة نصدر كتبًا أونضع مناهج، ونقول كيف يتم تعليم اللغة، وليس معنى هذا أننا لم نشكل لجانا لتقول رأيها فيما تنتج وزارة التعليم من مناهج ومقررات، فنحن معنيون برصد حالة اللغة العربية فى المجتمع، وبيان السلبيات التى طرأت عليها فى الاستخدام المجتمعى، ولعل أبرزها عدم حديث المسؤولين باللغة العربية الصحيحة فى لقاءاتهم، وهذا لم يكُن يحدث حتى فى العصر المملوكى، لكن الآن يذهب المسؤول للغرب يتحدث بالإنجليزية، مع أن الآخرين يعتزون بلغاتهم فيسقط من نظرهم، والغريب أن هؤلاء المسؤولين لا يعلمون أن «العربية» لغة معترف بها فى الدوائر العالمية ولها مترجمون، فهم ليسوا فى حاجة للحديث بلغة أخرى.
■ الأغانى - وهى أحد الروافد اللغوية - أسهمت بشكل كبير فى تردى اللغة بما فيها اللهجة العامية ذاتها؟
- ليس لى سيطرة على الأغانى، وإنما نطالب وسائل الإعلام بأن يكون هناك حظ أوفر للغة فى البرامج، خاصة بعدما غزت العامية الصحف والمجلات، هذه مسؤولية رئيس التحرير ونقابة الصحفيين، فأنا أفهم أن تكون هناك أغانٍ بالعامية، لكن لا أفهم أن يكون هناك مقال بالعامية، بل وندعو إلى دراسة العلوم فى مصر والوطن العربى باللغة العربية، خاصة أنه لا يوجد عائق لذلك، فهناك أكثر من 30 معجمًا للعلوم فى الطب والهندسة والصيدلة وغيرها، على استعداد لتقديمها للجامعات لنقضى على حجة أنه ليس لدينا علم باللغة العربية، فالمهم فى نقل العلوم من بلد لآخر هو أن تستوطن العلوم فى عقل المجتمع، ولا مانع من معرفة اللغة الإنجليزية للتواصل مع المدارس العلمية العالمية.
■ البعض تكلم عن سيطرة الإخوان على مجمع اللغة العربية، خاصة بعد «الخناقة» التى دارت بين رئيس جامعة القاهرة ورئيس «المجمع»؟
- المشكلة ليس لها علاقة بمجمع اللغة العربية، فهى معركة بين الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة، والدكتور حسن الشافعى رئيس المجمع والدكتور حماسة عبداللطيف عضو المجمع، وهما أستاذان بجامعة القاهرة، والسبب المدهش فى هذه المعركة هو فصل أستاذ من جامعة دون قضية ولا تحقيق أو لجنة تأديب، فالفصل له ظروف ولوائح متعارف عليها منذ زمن، أما أن يفصل أستاذ لأنه يتقاضى راتبا من هنا أوهناك، فهذا أمر مدهش وسيحكم فيه القضاء لأنه فى حدود علمى هناك دعوى قضائية أقامها كل من الشافعى وعبداللطيف بشأن الموضوع.
أما الحديث عن اتهام الشافعى بأنه ينتمى للإخوان فهذا أمر تحكم فيه أجهزة الدولة، وليس أحد آخر، فإذا كان هناك ما يُعلن فلماذا لا يُعلن، رغم علمى أنه أعلن انفصاله عن الجماعة منذ عشرات السنين، أما الإصرار على أنه كان إخوانيا فهذا بحث فى الملفات القديمة، عندما سُجن الرجل فى عهد عبدالناصر، وهو طالب فى الجامعة، أما «عبداللطيف» فمعروف عنه أنه لا علاقة له من قريب أو بعيد بالإخوان.
■ تتلمذت فى كلية دار العلوم على يد القطب والمفكر الإخوانى سيد قطب فحدثنا عن هذه المحطة؟
- لقد أتوا بقطب عندما كنا طلبة فى الفرقة الأولى بدار العلوم بجامعة القاهرة، وكنا الدفعة الأولى التى تم قبولها من خارج طلاب الأزهر، حيث كنا حاصلين على التوجيهية، و«قطب» كان وقتها ناقدًا ولم يكن ينتمى للجماعة بعد أو له أى ظل سياسى، ليعلمنا علوم القرآن، فدرّس لنا مادة «فى ظلال القرآن» خلال عامى 1953 و1954، بهدف فهم المعانى العميقة للقرآن، ولم نره بعدها، لكنى عرفت بعدها بسنوات أنه أكمل محاضراته التى بدأها معنا، وجمعها أثناء سجنه فى كتاب «فى ظلال القرآن الكريم».
■ كيف تقرأ فترة حكم الإخوان؟
- أنا ضد أى حكم دينى شمولى، وأعتبر أن فترة حكم الجماعة لعام أعادتنا إلى زمن التخلف المصرى، وبالتالى فهم لم يحسنوا الحكم ولم يحسنوا حتى تنفيذ ما كان فى عقولهم، وظنوا أنهم غنموا الدولة ومن حقهم التصرف فى غنيمتهم الكبرى، وراحوا يروجون لمشروع وهمى، لا يوجد إلا فى عقولهم هو مشروع الدولة الإسلامية.
السيسى باله طويل مع العُراة والعاطلين.. والمسؤولون يفعلون بـ «اللغة» ما لم يفعله المماليك
■ ماذا عن حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى؟
- الرجل له تصرفاته الوطنية التى لا تنكر، وله شجاعة الموقف وتحمل المسؤولية فى فترة كان البلد على شفا الانهيار والانتهاء، ورجل له فكره فى المشروعات الوطنية الكبرى، وإن كنت أرى لو أنه أعطى المشروعات اليومية التى تواجه طعام المواطن ومسكنه وعمله اليومى اهتمامًا مماثلًا لهذه المشروعات، لأن الناس تحتاج الإحساس بالطفرة والنجاح السريعين فى الطعام والغذاء والعمل والسكن، لأن الأمعاء لا تصبر طويلاً، والعُراة والعاطلين والذين بلا سكن لا يصبرون طويلاً، الرئيس باله طويل ونحن نقدر هذا، لكن الناس تريد حلولاً سريعة لمشكلات يومية.