لم يعد هناك مفرٌ من إدراك حقيقة بلوغنا فى مصر رقم المائة مليون نسمة خلال سنوات قليلة قادمة، بل إن المرجح أننا قد وصلنا إلى هذا الرقم بالفعل، وتعديناه إذا ما أضفنا المصريين فى الخارج الذين يزيد عددهم على 8 ملايين نسمة. وفى الوقت الحالى، فإن مصر تحتل المكانة الـ15 فى الترتيب العالمى للدول من حيث عدد سكانها، لكن الكارثة سوف تتبدى لنا إذا ما اطلعنا على «نوعية» السكان. فعند حساب نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى وفقا للقيمة الشرائية للدولار، فإن النصيب سوف يكون 11.9 ألف دولار، فنجد أنفسنا فى المكانة المائة، أما عندما نعرف أن نصيب الفرد من القيمة الاسمية للناتج المحلى الإجمالى سوف يكون 7.3 ألف دولار فإن ترتيبنا ينخفض أكثر إلى 115 على العالم. الحقيقة الأفدح أن ربع عدد السكان لا يعرفون القراءة والكتابة بالمطلق، وما تبقى من الأفراد قد يعرفون بعضا من ذلك، ولكن فى العالم المعاصر فإن مثل هذا لا يعنى الكثير. النتيجة فى النهاية أن لدينا قنبلة سكانية متفجرة بالجهل والفقر، والقدرة المحدودة للتعامل مع عالم ليس فيه رحمة بمن لا يعرفون أكثر من عملية الزيادة السكانية.
التحدى بالفعل كبير، ودولة المائة مليون تجعل هذا التحدى مضاعفا، ومع ذلك فإن المواجهة ممكنة، وإذا كانت الصين بمليار ونصف مليار نسمة، والهند بما تعدى المليار، قد تمكنتا من عبور الأزمة الكبرى، سواء بوقف عملية الزيادة السكانية أو بالارتفاع بنوعية السكان، فإن مصر يمكنها أن تفعل ذلك. والقضية بهذا الشكل يصبح لها جانبان: الأول أننا أهملنا مسألة الزيادة السكانية بعد أن حققنا فيها تقدما معقولا حتى نهاية الألفية الثانية، ثم بعد ذلك انفلت العيار من عقاله خلال الفترة التى تلت عام ٢٠٠٠. ما جرى خلال هذه الفترة يحتاج مراجعة ودراسة تفحص الذى جرى وأسبابه حتى يمكن استئناف المحاولة مرة أخرى. والثانى أن التنمية الكثيفة والسريعة والمستدامة هى المفتاح للتعامل، ليس فقط مع حقيقة دولة المائة مليون، وإنما ما سوف يتلوها من عشرات الملايين الجدد.
وفى مقالات سابقة، ركزنا كثيرا على قضية الاستثمار، وفى مقال الأسبوع الماضى أشرنا إلى الفشل الكبير للعقد الاجتماعى الذى سارت عليه البلاد خلال العقود الماضية، فلا العقد أخرج الفقراء من فقرهم، ولا أعطى المواطنين خدمات جيدة، ولا زاد من تنافسية القوى العاملة، وأكثر من ذلك كانت للعقد تكلفة مالية هائلة. الأمر هكذا يحتاج بشدة عقدا اجتماعيا جديدا، ومنهجا للتنمية يقوم على إتاحة بيئة خارجية وداخلية مناسبة للتنمية الشاملة والعدالة التى تؤدى إلى زيادة معدلات النمو من ناحية، وتخريج الفقراء والأميين من فقرهم وأميتهم. وببساطة، يمكنهم الارتقاء فى السلم الاجتماعى ولا يكرس وجودهم حيث يقبعون حاليا.
ولا تتحقق نسب النمو المرتفعة ما لم تتوافر بيئة إقليمية مواتية، تلعب مصر فيها دورا رئيسيا. وحتى يتم النمو المصرى المتصور وتصبح مصر حقيقة جغرافية اقتصادية، فإن قيمة مصر فى النظام العالمى سوف تظل رهنا بقيمتها الجيوسياسية فى الشرق الأوسط. وتحصل مصر على المزايا الاقتصادية عندما تكون قوة بناءة فى الإقليم وذات علاقات عضوية فى عملية هذا البناء بالتعاون مع العالم. ولدى مصر مجموعة لا بأس بها من الأوراق الجيو- بوليتيكية، تقع فى مقدمتها عملية السلام وتحقيق الاستقرار فى المنطقة بعد سنوات من الاضطراب والحروب الأهلية، والحرب ضد الإرهاب والأصولية الإسلامية فى الشرق الأوسط وفى العالم.
ولكن البيئة الخارجية لا تصلح وحدها لتحقيق الأهداف المصرية فى التقدم والرخاء، ما لم تصاحبها عملية إعادة بناء للجبهة الداخلية، بحيث تسمح بوجود استثمار عالمى فيها. وتصبح مصر جاذبة للاستثمارات الخارجية إذا ما نجحت فى التحول إلى النظام الرأسمالى والنظام الديمقراطى بصورة صريحة مماثلة لما جرى عليه الحال فى الدول الآسيوية والأوروبية الشرقية الصاعدة. ويتم تطبيق النظامين بصورة شاملة وغير جزئية ومن خلال تغيير توجهات المصريين الأساسية تجاه رأس المال الأجنبى والمحلى، وتحويل المفهوم الأساسى للدولة المصرية من مفهوم أمنى لا يرى فى العالم الخارجى إلا مصدرا للخطر لكى يراه مصدرا للثروة. وفى الواقع، فإنه منذ بداية التسعينيات من القرن الماضى تبنت الدولة نظاما اقتصاديا مغايرا تماما لما كان عليه الوضع قبل ذلك، وهو النظام الذى يقوم بالأساس على الاقتصاد الرأسمالى وحرية السوق والخصخصة وتقليص دور الدولة فى إدارة الاقتصاد القومى، ثم ما تواكب مع ذلك من محاولات للإصلاح السياسى. ومن ثم نشأت الحاجة إلى ضرورة التفكير فى بلورة عقد اجتماعى جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن فى إطار التطور السياسى والاقتصادى، وذلك بهدف التعامل الفعال مع المعضل الأساسى الذى يواجه المجتمع، وهو كيفية تحجيم أو مكافحة الفقر فى المجتمع وتحسين مستوى المعيشة بشكل عام. ويتطلب بناء أو بلورة العقد الاجتماعى الجديد أن يتم ذلك بصورة تدريجية مع شرح دائم للمواطنين بجدوى هذا العمل، فالاتفاق (العقد) لا يأتى بقرار فوقى، وإنما من خلال طرح الأفكار والطروحات وإقناع الناس بها، ثم محاولة تطبيقها فى قطاع معين فى البداية وإثبات نجاحها أو ملاءمتها، ثم يتم تعميمها فى مرحلة لاحقة على كل القطاعات.
وفى سياق هذا الهدف الأساسى لتحجيم الفقر فى مصر فإن العقد الاجتماعى الجديد لابد له أن يساعد أو يهدف إلى خلق آلية لزيادة قدرة المواطن على الكسب، فبحكم التعريف فإن أى نظام فعال للدعم لابد أن يتضمن دخول المواطنين إليه، أى استفادتهم منه وخروجهم منه فيما بعد، أى استغنائهم عنه. فالنجاح لمثل هكذا نظام يقاس بالأساس بتناقص عدد المستفيدين منه أو المعالين فيه. هنا فإن الدعم تكون وظيفته تحقيق هذا الهدف، فيكون موجها إلى المناطق الفقيرة من خلال موقعها فى تقرير التنمية البشرية فى مصر، وقد تطور التقرير بحيث أصبح الآن واضحا تماما فى تحديد مستوى الفقر فى كل مركز وقرية وليس على مستوى المحافظات فقط، بما يتيح فى النهاية إمكانية أفضل لإيصال الدعم إلى مستحقيه. ومن الممكن أن يطبق ذلك على الصناعة أيضا بإعطائها امتيازات واضحة، وتتزايد مع تواجدها فى المناطق الفقيرة. ومن المقترح أن تتولى هيئة مستقلة الإشراف على تطبيق الاتفاق الجديد. فعلى الحكومة أن تكتفى بتحديد ما يمكن تسميته ميزانية «السلام الاجتماعى» فى الموازنة العامة للدولة. كما أنه من الضرورى أن يتم إنشاء محفظة مالية مستقلة للدعم المالى الذى تحدده الحكومة، تتم إدارتها لمصلحة الأفراد، فأهم مشاكل النظام القائم حاليا أن جزءا كبيرا من الدعم المالى مختلط مع ميزانيات الكثير من هيئات الدولة، فيضيع الحاجز بين ما هو الإنفاق العام للدولة وذلك المخصص لدعم من يستحق.
إن أحد المفاتيح الكبرى لتطبيق الاتفاق الجديد هو اللامركزية، بحيث يتم فى إطار كل محافظة، وأداة التنفيذ لا تكون بالضرورة هيئات حكومية، ولكن هيئات مستقلة تقوم بتقديم الخدمات. ولزيادة قدرة المواطن على الكسب، فلابد هنا من تبنى عدة برامج لتدريب هؤلاء المواطنين فى مجال المهارات المختلفة التى بها نقص أو فرص عمل متاحة أو تلك التى ترتبط مباشرة بمشروعات صغيرة يحاول المواطنون تنفيذها أو مشروعات قائمة بالفعل ويجرى دعمها من خلال مساعدتها على التوسع واستيعاب عاملين جدد أكثر مهارة. فالاتفاق الجديد لا يعنى فى النهاية تخلى الدولة عن دورها الاجتماعى، ولكن اختلاف الشكل والأسلوب والهدف، فالهدف الأساسى أن يخرج الناس من دوامة الفقر.
نقلا عن المصري اليوم