الأقباط متحدون - تذكرة وحيدة للقاهرة
أخر تحديث ١٧:٤٢ | الاربعاء ٢٨ سبتمبر ٢٠١٦ | توت ١٧٣٣ش ١٨ | العدد ٤٠٦٦ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

تذكرة وحيدة للقاهرة

خالد منتصر
خالد منتصر

«غنى عبدالحليم للسد، لكنه نسى أن يُغنى لمن هم خلفه»، عبارة عابرة كتبتها عين لمّاحة راصدة وقلم ذكى كاشف فى رواية جذابة آسرة، «تذكرة وحيدة للقاهرة»، قرّر مؤلف الرواية أشرف العشماوى أن يتدارك خطأ «عبدالحليم» ويغنى للغلابة الذين خلف السد، النوبيين الذين هُجّروا لكنهم لم يهاجروا، ظلوا مشدودين بحبال الوجد والشجن وأوتار الذكريات وأمانى العودة وأحلام الرجوع،

أشرف العشماوى كاتب يمتلك مشروعاً روائياً طويل النفس يعرف تضاريس خريطته الإبداعية جيّداً، يستلهم فيه عبق التاريخ دون أن يحول صفحات رواياته إلى أرشيف بارد فى دار المحفوظات، رواياته حياة تنبض تاريخاً، وسطوره تاريخ يتنفّس حياة، فى هذه الرواية قرّر أن يقطع تذكرة لعجيبة النوبى الهامشى ليقتحم مسرح روايته الملحمية وينصبه بطلاً كأبطال الإغريق لينتظر مصيره القدرى كـ«سيزيف» حامل الصخرة التى تنحدر كلما صعد، من جنوب الجنوب يأتى أسمر البشرة مطروداً من النوبة بالتهجير القسرى يتيم الأب المقتول غرقاً فى لحظة عبثية لتبدأ تفاصيل ملحمة من 400 صفحة تجوب أماكن لا يمكن أن تتوقعها كقارئ، من رفقة ابن العم فى نادى الجزيرة نادى الباشاوات قبل الثورة، إلى الزمالك، إلى عابدين، ثم إلى سويسرا!!، وإذا كانت ملاحم الإغريق هى صراع وثأر بين أرباب وملوك وأمراء وبشر من نور ونار، فإن ملحمة عجيبة هى قصة بشر من لحم ودم ولقطات صراع غلابة مع لقمة العيش، انتقل «عجيبة» من بواب فى نادٍ.. إلى «جزمجى».. إلى «عربجى».. ثم إلى مشارك فى تهريب وغسيل أموال من بنوك سويسرا إلى شرق أوروبا!!،

كيف انتقل بين كل هذه الأماكن وكل هذه المهن، والمهم أنه انتقل دون أى شذوذ أو افتعال روائى، لكن بمنتهى السلاسة والمنطقية، وهذا هو سحر الرواية وسر جاذبيتها، يظهر أشرف العشماوى من خلف الستار ويتسلل برأى سياسى صادم هنا ورأى اجتماعى مثير هناك دون أن يجثم كواعظ على أنفاسنا، إنه يطل علينا من خلف النافذة أحياناً ويراقبنا من ثقب الباب أحياناً أخرى، مشاعر متضاربة تلعب بك كأمواج البحر، تتعاطف معه وهو يعذّب من رجال الأمن ويستخدم كدمية من الإقطاعى أو تبتر أصابعه من الجزار، وتدينه وتستفز منه وهو يناور مع النساء ويزيف مع مافيا المال ويقتل بالخنجر الذى ظل يحلم باقتنائه طوال الرواية، لكنك فى مرحلة التعاطف أو الإدانة تظل حائراً فى ضبط بوصلة عاطفتك وأحكامك، وهذا ترمومتر الرواية الجيدة التى تستحق القراءة، الرواية امرأة جميلة لعوب تغويك فتطاردها وحين تقترب منها وتظن أنك قد امتلكتها وستستمتع بدفئها، تجدها قد أفلتت لتبدأ رحلة القنص والكر والفر من جديد، الرواية بناء هندسى محكم، لكنها ليست هندسة براجماتية خرساء،

لكن فيها جنون الفنان الجامح الذى يخرق أحياناً قواعد الهندسة، هى أوركسترا منضبط الإيقاع لكن المايسترو أحياناً يسمح إلى عازف الكمان أو الفلوت أن يعزف صولو محلقاً، لكنه لا يخرج عن سياق السرب الجميل مفرود الأجنحة، هكذا يتعامل أشرف العشماوى مع شخوصه، يتركهم أحياناً يتمرّدون عليه على الورق ويختبئون خلف السطور، لكنه فى النهاية يُلملم خيوط الماريونيت ويُصدر حكمه البات النهائى ولا ينسى أنه فى النهاية قاضٍ مسموح له بأن يقضى فى مصائر أبطاله، لكن غير مسموح له أن يقضى عليهم.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع