- سبتمبر 2009
- اعتداء على سيدة قبطية بـ"التتالية"، ومحاولة الاعتداء الجنسي على ابنتها لإرغامها على ترك الأرض
- المهندس "عدلي أبادير": ومرَّ عام على رحيل العملاق
- "جمال البنا": نملك الآن علمًا يفوق بأضعاف علم الأئمة الأربعة.
- أهالي المُفرج عنهم في أحداث "العمرانية": فرحة غير عادية تعيشها بيوتنا بعد الإفراج عن أبنائنا
أنت مش عارف أنا مين !!
أنت مش عارف أنا مين.. جملة استنكارية متكررة ومتنوعة التداول، حتى أصبحت تيمة يرددها كل من هب ودب بالحق أو بالباطل، من يستحقها ومن لا يمت لها بصلة.
نسمع هذه الجملة بمناسبة وغير مناسبة حتى أصبحت عقدة، والأنكى يتباهى بها كل من يتشدق بكلماتها، وكأنها متلازمة المكانة الاجتماعية الخاصة به، ومهما كانت جذور هذه المكانة، وكيف أصبحت؟!
لا أحد ينكر على المجتهد اجتهاده، ودأبه فى أن يرتقى بعلمه وخلقه وعطاءه فى المجتمع ويجنى فى النهاية ثمار هذا الاجتهاد، لكن ألا يكون شىء ويتباهى بحسبه ونسب لمجرد أنه أبن فلان أو علان أو تبوأ منصب خدمه الحظ والوساطة فيه، فتلك مصيبة غرزت أنيابها فى بنية المجتمع بأكلمة حتى اختلطت الأوراق وأصبحت تيمة "الأنا" تتنامى وتتضخم داخل النفس دون وجه حق.
فى علم الاجتماع "الإيجو" والسوبر إيجو" هى تضخم "الأنا" و"الأنا الأعلى" فحين يتنامى هذا الإحساس ويتضخم يفشل المجتمع فى تحديد هويته، فالألقاب لا تصنع الشخصية، لكن فى مجتمعنا الألقاب وهى السائدة وهى التى تحدد المكانة.. "البيه" و"الباشا" و"البرنس".. ألقاب تتلقفها جميع شرائح المجتمع وفى معظم الأوقات، دون وجه حق، بل لمجرد التضخيم وتضخيم الأنا ليشعر صاحبها بالرضا عن ذاته، وأن كان شعورا زائفا، والمبالغة فى الاحتفاء بهذه الصفات تعطى قدرا أكبر لصاحبها فيختال كالطاووس مصدقا نفسه، وليمارس بارتياح ضمير يضرر الكثير من الشرور.
لقد وصلت الانهيارات الأخلاقية فى المجتمع إلى حد غير مسبوق، فى كل يوم تبادرنا الصحف بمزيد من المفاجآت، ونتعثر فى حياتنا اليومية بالكثير من التعالى والزيف والتصنع، ونسمعها مرارا وتكرارا على مدار الساعة "أنت مش عارف أنا مين"؟ ضباط شرطة يعطى لنفسه الحق فى ضرب وسب وقذف أستاذة جامعية لمجرد أنه ضابط شرطة وأبن فلان وشاب يكسر إشارات المرور ويقتحم الأرصفة الآمنة تحت مخدر الاستهتار وتضخم الأنا ويزهق أرواح الناس لمجرد أنه أبن نائب فى البرلمان أو أبن وزير أو أبن رجل أعمال "إيده طايلة" أو.. أو..
لكن أن يصل المستوى إلى هذا التدنى، وينتهك تابو العلم فى عقر دارة فهذه بداية النهاية، أن تضرب أستاذة جامعية أثناء تأدية وظيفتها فى معقل العلم والتنوير ومسح بهيبتها البلاط أمام طلابها فهى المهزلة بعينها، ماذا يتبقى من قيم هذا المجتمع؟ .
لهذا انتقلت هذه العدوى إلى الأوساط الطلابية فى المدارس والجامعات وأصبح التميز فى العلاقات بين طالب وأخر بما يلبسه ويصرفه ويركبه من سيارات آخر موديل وحسب ونسبه .. الخ.
غير أن بعض ضباط الشرطة كانوا دائما فى المقدمة معروفون بالغطرسة والتباهى، يتخفون ويمارسون سطوتهم تحت عباءة تنفيذ القانون بدءا بضرب المواطن لم يعجب هذا الضابط لمجرد دخوله فى جدل أو نقاش جاد أو متهم لم تثبت إدانته فيتعرض لأقصى أنواع الضرب والتنكيل مصحوبا بأفظع أنواع السباب والشتائم، أو حتى التحرش فى الشارع المكتظة بلحم البشر حتى أختلط الحابل بالنابل، وأصبح المتهم بريئا، والبرىء متهمًا والتبست الحقائق وتاهت القوانين فى زحمة الشعور المتضخم ب"الأنا" الحاكم الوحيد الحسب والنسب والصفة الاجتماعية، ليس القانون والقواعد المتبعة والأخلاق أو الاجتهاد وهى الفيصل.
ومع الوقت بنيت ثقافة المجتمع على الخوف والترهيب، وذابت قيمة فى بروز هذه الشريحة وأصبحت تتبوأ أرفع المناصب، ربما كانت جذورها قديمة منذ انهيار طبقة الإقطاعيين الذين بنوا لأنفسهم قيم وتقاليد خاصة أحاطوها بسياج حديدى لا يمكن اختراقه حتى جاءت الثورة فانقلبت على هذا الشريحة وفتتت أجزاءها، وإن كانت هذه الطبقة البرجوازية تتحصن بأخلاقياتها وقوانينها الخاصة، ومع الوقت ظهرت طبقة عشوائية وانصهر المجتمع فى بوتقة أفرزت خليط من القيم الجديدة لا تحمل صفات طبقة الإقطاع البائدة التى توارثتها أبا عن جد وتحمل قدرا كبيرا من الرقى والتعفف وأن كان تحمل فى جذورها التميز بما يملك ويمنح للآخر.
وسط هذه الظروف انحرف مسار المجتمع وتغيرت قواعده وتملكته جينات من نوع جديد "حقى بدراعي" ونسبى وحسبى دون الالتفات للقانون والقائمين عليه، والمشغولون عنا بصياغة وتفصيل بنوده لتحفظ للحكومة وجودها وعلى كثره الانهيارات التى يعانى منها المجتمع، لا نستطيع إغفال حق أشخاص نبتوا وسط الأشواك والتشوهات قد لا نعرفهم غير أننا نتعثر بأحدهم هنا أو هناك، ورغم الصورة شديدة السوء التى يوحى بها بعض ضباط الشرطة، هناك من كانوا مثال التضحية والقدوة، وأحد هؤلاء المقدم خالد عمارة رئيس وحدة مرور شيراتون النزهة، ولا أنكر أننى اندهشت لهذه الصورة التى هو عليها على غير ما طبع فى الذاكرة من التعالى والتأفف وضيق خلق.
المقدم خالد عمارة فى وحدته مثال يحتذى به كونه جعل من هذه الوحدة منارة للنظام والانضباط والنظافة والتعاون وبخلاف الوحدات المرورية الكثيرة التى تعاملت معها، فالرجل منضبط فى مواعيد حضوره، وتعاملاته مع المترددين على الوحدة على كثرتهم، كنت أتعجب لقوة تحمله وصبره وأتساع صدره رغم الزحام الشديد الذى يتكدس فى مكتبه، وتجوله ونشاطه الدائم وسط الموظفين وإعطاء كل ذى حق حقه دون تبرم، وحينما تناقشه فيما ألت إليه تندهش من تفاؤله وتفانيه فى أظهار صورة مشرفة لهذا البلد الذى أرهقته السلبيات، حتى غابت عنا مباهج الحياة وأصبحت الكآبة واليأس هما السائدين ومعايشة هذا الواقع بصلابة هى البطولة.. حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
نقلا عن اليوم السابع
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :