الأقباط متحدون - الشُرطة بين الأمس واليوم
أخر تحديث ١٩:٢٧ | الاربعاء ٢١ سبتمبر ٢٠١٦ | توت ١٧٣٣ش ١١ | العدد ٤٠٥٨ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

الشُرطة بين الأمس واليوم

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

فاروق عطية
   لست أدري ما الذي جري للشرطة هذه الأيام، نقرأ من آن لآخر عن حوادث يندي لها الجبين أبطالها أفراد الشرطة الذين من المفترض أنهم حماة للأمن والقانون، لكن ما نقرأه اليوم وما نشاهده ينطبق عليه القول الدارج حاميها حراميها. بالطبع ليس كل أفراد الشرطة فاسدون، قد يقول البعض أن ما نقرأه أو ما نشاهده لا يحدث إلا من قِلّة مارقة، هذا صحيح، لكن القليل من الحبر الأسود يبقع الثوب الأيبض ويدنسه. عن الشرطة المصرية أتحدث، وأعتقد أن ما يحدث من الشرطة المصرية ليس ببعيد عما يحدث في الدول العربية الأخرى، فكلنا في الهم شرق. قرأنا عن ضابط احترف سرقة السيارات وتغيير لونها وبيعها، كما قرأنا عن ضابط يتعامل مع مهربي المخدرات مقابل المال، وقرأنا عن ضباط تعاونوا مع الإرهاب لقتل ضابط زميل لهم، ووصل الأمر إلي أن أفراد من الشرطة قاموا بسرقة خزينة مديرية الأمن ذاتها. أما جرائم الفئة المستجدة في خدمة الشرطة والتي يطلقون عليها أمناء الشرطة فخطاياها وأخطاءها فاقت الحد والمعقول، بالرغم من كونهم متعلمون والمفترض أنهم يعلمون مغبّة ما يفعلون.

   كان جهاز الأمن في الماضي يعتمد علي ضباط من طبقة الموثرين أو علي الأقل من الطبقة الوسطي، ضباط من عائلات محترمة قامت أسرهم المحترمة بتربيتهم التربية المثلي، وكان عملهم الشرطي ينطق بالنزاهة واحترام حقوق الإنسان. أما الآن بعد التحول الاشتراكي المزعوم سمح لأبناء الطبقات الدنيا بدخول كلية الشرطة، لتُخرّج ضباطا عانوا الفقر والعوز في الطفولة وتربوا في أسر لا تعرف قيمة الشرف والأمانة، وبعضهم متمرس في تجارة المخدرات، وفاقد الشيئ بالطبع لا يعطيه.

   وكان يعاون الضباط في الزمن الجميل طبقة من الصف ضباط وعساكر يعينون من رديف القوات المسلحة بعد تأدية الخدمة الإجبارية، مع قِلّة دخولهم وربما كان معظمهم أميون أو محدودي الثقافة ومع ذلك هم كانوا يتميزون بالانضباط والأمانة وحسن المعاملة. وحاولت القيادات الشرطية في هذا الزمن الأغبر التحديث بإدخال فئة متعلمة في المجال الشرطي بدلا من العسكر، فأنشأت معاهد متوسطة تقبل الحاصلين علي الثانوية العامة الغير مقبولين جامعيا لضعف درجاتهم، لدراسة الثقافة الشرطية تُخرّج ما أسموه بأمناء الشرطة. هذه الفئة المستحدثة رغم رواتبهم الكبيرة والمكافأت المجزية يشعرون بالدونية كونهم أقل مرتبة من الضباط، فيخرجون عقدهم علي من يقع تحت أيديهم من البسطاء، يكيلون لهم السباب بأقزع الألفاظ ويوسعونهم ضربا بوحشية، كثيرا ما أفضت إلي الموت ويتخلصون من الجثث بأغرب الوسائل كإلقائها في النيل أو الطرق الصحراوية، أو يدعون أن من قتل قد مارس الانتحار.

   لي بعض الذكريات مع الشرطة، أذكر منها ما حدث في فترة الصبا في مرحلة الدراسة الثانوية، وكنت أقيم بإحدي مدن الصعيد (مدينة طهطا محافظة سوهاج). كنت يوما أسير مسرعا لقضاء بعض الأغراض اليومية، وأسناء سيري حاول صديق زميل دراسة استيقافي للحديث معه فتجاهلته وأسرعت الخطا، فاغتاظ مني وسبني بصوت مسموع قائلا: فاروق يا إبن .....، كان ذلك أمام مركز الشرطة، فنظرت للجاويش الواقف كالسبع مع اثنين من العسكر علي مدخل المركز وقلت له: ألا تسمع السب والعيب في الذات الملكية؟ فهب مسرعا وألقي القبض علي صديقي وأودعه الحجز حتي حضور الضابط النوبتجي لإجراء اللازم حياله. وبعد أن قضيت مهمتي تذكرت صديقي الذي وقع في فخ العيب في الذات الملكية، فتوجهت للمركز وقابلت الضابط النوبتجي وهو جار لنا وصديق للأسرة، شرحت له الموقف وأن الأمر مجرد دُعابة وزميلي كان يقصدني بالسباب وليس الذات الملكية، فضحك الملازم أول عبد العزيز وطلب من الجاويش إطلاق سراحة بعد تحذيرنا من التمادي في هذا النوع من الهزار الذي قد ينقلب لكارثة.


   وفي مرحلة الدراسة الجامعية، كان لي زميل اسمه سيد العشري، كان يشاركني السكن بشقة سكنية بشارع غرب القشلاق العباسية قريبا من قصر الزعفرانة مقر كلية العلوم جامعة عين شمس حيث كنا ندرس. بعد انتهاء التيرم الأول وفي أجازة نصف السنة الدراسية سافر صديقي إلي أسرته بأسوان، حيث كان والده يعمل عسكري شرطة بمركز أسوان. وقبيل انتهاء الإجازة بيوم عاد زميلي من سفره في القطار الذي يصل القاهرة في منتصف الليل تقريبا. وفي حوالي الساعة الواحدة والنصف كان زميلي يطرق باب غرفتي لإيقاظي، طلب مني في خجل أن أعيره بيجاما لينام فيها. وحين سألته عن ملابسه، انفجر ساخطا وقال: أبويا ابن الكلب ضيعني وتسبب في ضياع حقيبتي بما فيها من مصاريف الكلية والإعاشة وملابسي وكتبي. هدأت من روعه فقص علي ما حدث. حين عزم علي السفر ذهب معه أبوه وإخوته إلي محطة القطار لتوديعه كعادة أهل الصعيد. وحين أقبل القطار وضع أخوه الحقيبة علي الرف المقابل لمقعده حتي تكون تحت ناظريه. وحين تحرك القطار كان أبوه ممسكا بالنافذة ويسير مع القطار ناصحا له قائلا بصوت جهوري: خللي بالك يا سيد من شنطتك فيها فلوسك وكل متعلقاتك، أوعي تغفل عنها لتتسرق. وكأن والده رغم أنه عسكري شرطة من الطيبة والسذاجة بحيث أعطي للصوص الفرصة السانحة للإستيلاء علي الحقيبة. قال صديقي: بعد تحذير والدي أيقنت أن حقيبتي ستسرق لو غفلت عنها ولو لثانية، وظللت متيقظا طوال مدة السفر الطويل أجاهد النعاس بكل ما أوتيت من قوة وعيناي مركزتان علي الحقيبة وبعد مرور حوالي سبع ساعات وعند تهدئة القطار من سرعته دخولا لمحطة أسيوط، مجرد عيني رمشت وفتحتها، إختفت الحقيبة كأنها تبخرت، وأسرعت ركضا داخل العربات ولم أر أحدا معه حقيبتي.

  وبالأمس حين كنت أسير علي كورنيش النيل بحدائق شبرا، أستمتع بنسمات العصاري المنعشة، شاهدت منظرا أفزعني وملأني غيظا وحِنقا. رأيت إثنين من أمناء الشرطة يقلبون صندوق رجل مسنّ، يجلس علي الرصيف يشوي بعض كيزان الذرة ويبيعها لمن يستمتع سيرا علي كورنيش النيل. حاول الرجل الاحتجاج بأنه يحاول اكتساب رزق عياله ببيع الذرة المشوية، وأنه يفعل ذلك لأنه عمل شريف خير من التسول أو السرقة. لم يقبل الأمينين احتجاجه بل حطما كيزان الذرة بحذائيهما، وصفعه أحدهما علي وجهه وركله الآخر في ظهره فانكفأ علي الأرض يئن ويتوجع، فأمسكا بتلابيبه جرا حتي يودعاه سيارة الشرطة. انبريت بالتدخل لنجدة هذا الإنسان المعتدي عليه، قلت للأمينين: عفوا يا كباتن، رفقا بهذا الرجل الضعيف ويكفي ما فعلتماه بمصدر رزقه، أرجوكما يكفي هذا واتركاه يعود لأولاده. فنظرا إلي بنعال وغرور، وقال أحدهما: لا تتدخل فيما لا يعنيك فتري ما لا يرضيك. وتبعه الآخر بتوجيه لكمة لفكي فوقعت علي الأرض أتلوي من الألم، لأستيقظ من نومي لاهثا مزعورا.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع