طرب الجسد: تحية كاريوكا نموذجًا
سامح جميل
الراقصة تحية كاريوكا أيقونة الثقافة المصرية بل «أيقونة» المثقفين العرب. وزاد الطين بلّة أن إدوارد سعيد كتب عنها فأصبحت مقالته أيقونة «نصّية» كتب عنها الكثير. يقول سليمان الحكيم في كتابه «كاريوكا بين الفن والسياسة» ان إدوارد سعيد لم يكن وحده مَن وقع في غواية كاريوكا وشخصيتها الطاغية. سبقه عدد من المفكرين والكتاب منهم سلامة موسى ومصطفى أمين وصالح مرسي والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كتب عنها يقول: «إن كاريوكا حررت الرقص الشرقي من تأثير الأجنبيات، ومثلها في ذلك مثل سيد درويش الذي حرّر الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك» («أوراق محمد عبد الوهاب»، دار الشروق). وزاد عبد الوهاب مؤكدًا أن تحية «ظاهرة وطنية»، وتكمن قدرتها في «أنّها كانت تستطيع أن تعطيك كل ما عندها من فنّ وحركة بكل جسمها في مساحة لا تزيد على متر مربع واحد، لا تحتاج إلى جري حول المكان «رايحة جاية» لتبهرك أبدًا». ولا يختلف رأي عبد الوهاب عن رأي الباحث جلال أمين، فهو يعتبر أن تحيّة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بتاريخ مصر نفسها، وإن جسارة قلبها كانت تدفعها إلى أن تصل بالشيّء إلى منتهاه، ولكن يحميها ذكاؤها من الذهاب إلى أبعد من الحدّ الأقصى المسموح به، وحتى الكاتب عباس محمود العقاد امتدح رقص تحيّة.
وحين صوّرت نبيهة لطفي فيلمها عن تحيّة، تجلّى المزيد من غواية هذه الأخيرة في عيون المثقفين والكُتَّاب والرسامين، فتقاطرت الأقلام التي تَكَتَّبَت عنْ جوانب مهمّة في حياتها، وليس أقلّها علاقتها بالسياسة والرؤساء واليسار المصري. يتضمن فيلم نبيهة لطفي شهادات من محبِّي الراقصة الراحلة منهم الفنان التشكيلي عادل السيّوي الذي رسم تحية في أكثر من لوحة، والروائي صنع الله إبراهيم، والمفكر الراحل محمود أمين العالم، والكاتب رفعت السعيد، والمخرج الراحل يوسف شاهين، والكاتب صلاح عيسى وغيرهم. تكلم بعض المثقفين عن «فلسفة» رقص عند تحيّة التي حوّلت الرّقص إلى فكر كما حوّلت الجسد إلى «لوحات تشكيلية فلسفيّة». ولم يتورّع أحد المتحدّثين عن وصفها بالفنانة التي تجاوزت الإيقاع, ليس الإيقاع الموسيقي وحده وإنّما الإيقاع التشكيلي الذي أجبرته على التماهي فيها. وأججعت الغالبية على أن فنها ورقصها كانا ينبعان من داخلها. ولعل سيرة حياتها تؤكد أن عشقها للرقص فطري تم تطويره في الدروس التى تلقتها فى مدرسة وملهى بديعة مصابني التي احتضنتها صغيرة فاستطاعت أن تحول: «الرقص الشرقي إلى فن بعد أن كان استعراضًا للجسد» حسب مقال للراحل إحسان عبد القدوس.
تحية بقلم ادوارد سعيد
الراقصة الشرقية البارعة ترقص في متر مربّع واحد وتحية كاريوكا حوّلت الرقص الشرقي الى فن بعد ان كان مجرد استعراض.
الغالب في علاقة تحية بالمثقفين جاء في تفسير المثقفين أنفسهم لفحوى مقالة إدوارد سعيد. أكد البعض أن اللافت فيه هو الاهتمام بـ«الفن الشعبي»، والاعتناء غير المسبوق بدراسة الفئات المهمّشة. سعيد زار تحيّة في منزلها في سنواتها الأخيرة وكتب عنها مقالًا، نشره في جريدة «الحياة»، قائلًا «لم تكن تحيّة كاريوكا راقصة جميلة فحسب، وإنّما كانت فنانة لعبت دورًا مهيمنًا في تشكيل الثقافة المصرية». هناك من حاول التأكيد أنّ سعيد اهتم بنضال تحيّة السياسي لا بجسدها الذي كان وقت الكتابة قد أصبح كيانًا «متحفيًا» وكتلة من الشحم! وهناك من أشار إلى أن صاحب كتاب «الاستشراق» كان يعيد الإعتبار لا إلى الرقص فحسب بل إلى المرأة أيضًا. فهو تعرّف إلى تحيّة يافعًا في القاهرة عام ١٩٥٠ في «كازينو بديعة» (مصابني)، حيث شاهدها ترقص. ليس غريبًا أن يكتب سعيد عن الراقصة المصرية الكبيرة، فشأن المثقف أو المفكر أنْ يكتب عن كل شيّء، أن يؤوّل كل شيّء، والرقص الشّرْقيّ تعبير عن ثقافة شاملة وليس أمرًا عابرًا، والأمور لا تكون في الشكليّات بل في جوهر ما يكتب. وحجة سعيد أنه يكتب عن رمز من رموز الفن والتسلية الشعبية التي كان لها دور في الحياة الفنية العربية، ويحلل لغة الجسد ــ حيث ينتج الجسد لغة بيئته فضلًا عن اهتمامه بأدوار تحية المسرحية والسينمائية والسياسية.
يعتبر إدوّارد سعيد أن تحيّة «أروع راقصة شرقية على الإطلاق»، وأنها «تجسيد لنوع من الإثارة بالغ الخصوصيّة»، مما جعلها «أنعم الراقصات وأبعدهن عن التصريح، كما جعلها في الأفلام المصرية نموذجًا واضحًا أشد الوضوح للمرأة الفاتنة المغويّة التي يفتك سحرها بالناس». بالطبع هناك الكثير من المبالغة في توصيف سعيد لتحيّة تمامًا كالمبالغة في حديثه عن الاستشراق، لكن الجيد أن سعيد ينزع صفة الابتذال عنها، قائلًا إنها تنتمي «إلى عالم النساء التقدميات اللواتي يتفادين الحواجز الاجتماعية أو يزلنها»، بل إنها «تنتمي إلى النسق الذي يسمى «العالمة»، ولقبت بهذا اللقب فعلًا في فيلم «لعبة الست» 1946) ولعبت في حياتها هذا الدور. ويمضي سعيد في مكان آخر: «رشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكي تمامًا، بل ومهيب يستند في ذلك إلى خبرة بدت واسعة في مجال الرقص: «إن جوهر فن الرقص العربي التقليدي، شأن مصارعة الثيران، ليس في كثرة حركات الراقصة وإنما في قلّتها» و«حدهن المبتدئات أو المقلدات البائسات من يونانيات وأميركيات يواصلن الهزهزة والنطنطة الفظيعة هنا وهناك مما يُحسب «إثارة» وإغراءً حريميًا، فالهدف يتمثّل في إحداث أثر عن طريق الإيحاء أساسًا».
ويستنتج سعيد أن تحيّة تقف في قلب النهضة المصرية إلى جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب الريحاني. من هنا فإنه يشعر بـ«خيبة أمل» من قيامها ببطولة مسرحية «يحيا الوفد» الهزلية جدًا. وقد اعترفت تحيّة في لقاء مع سعيد بأن آخر أزواجها فايق حلاوة هو الذي ورّطها في تلك المسرحية السيئة التي قام بتأليفها وكانت تفاخر أمام سعيد بأنها كانت، على الدوام، منتمية إلى اليسار الوطني.
وكانت تبريرات سعيد في الكتابة عن تحيّة تنصبّ في أسباب ثلاثة كما رصدها الروائي العراقي علي بدر في مقالة «إدوّارد سعيد وتحيّة كاريوكا: الپوپ آرت وبولطيقيا الجسد في الدراسات ما بعد الكولونيالية». السبب الاول، بروز دراسات الـ«پوپ آرت» والثقافة الشعبية وأبحاث الفن الشعبي العفوي والمجاني كفرع من فروع تيار ما بعد الحداثة، والثاني، بروز تيار ما بعد الكولونيالية في دراسة بولطيقيا الجسد، حيث يكون جسد تحيّة هو السطح الذي تنقش عليه الحوادث التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية نفسها، والثالث هو الاهتمام الذي أولته النظرية النقدية المعاصرة إلى الكائنات المقموعة والمهمّشة من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، مثل النساء والزنوج والفقراء والأقليّات الدينية والعرقية الإثنية....!!