فى توقيت متزامن تقريباً، صادق مجلس النواب الأمريكى على قانون يسمح لأهالى ضحايا اعتداءات سبتمبر ٢٠٠١ بمقاضاة السعودية ومطالبتها بتعويضات مالية، فى الوقت الذى اتفقت فيه إدارة الرئيس باراك أوباما، بصورة نهائية، مع إسرائيل، على منحها أكبر مساعدات عسكرية فى التاريخ، بلغت قيمتها ٣٨ مليار دولار.
مصادقة مجلس النواب الأمريكى جاءت فى ذكرى مرور ١٥ عاماً على الهجمات، وبعد خمسة أشهر من مصادقة مجلس الشيوخ على نفس القانون، الذى يضع فى الاعتبار وجود نحو ٧٥٠ مليار دولار استثمارات سعودية فى الولايات المتحدة، من بينها ١١٩ ملياراً سندات للخزانة الأمريكية، قد تكون هى الهدف النهائى للقانون الأمريكى، أو للعقوبات المنتظرة.
بعيداً عن التكهنات الحالية بإمكانية استخدام الرئيس الأمريكى حق النقض لإجهاض القانون من عدمه، ذلك أنه فى هذه الحالة سوف يحتاج إلى موافقة الثلثين فى المجلسين من خلال تصويت جديد، وهو أمر متوقع، إلا أنه فى كل الأحوال، أصبحت السعودية فى مرمى النيران الصديقة الأمريكية، كبديل لإيران التى كانت حتى وقت قريب هى الهدف الأمريكى المباشر بضغط من إسرائيل، وكأن صفقة الأسلحة فى هذا التوقيت تشير إلى مباركة إسرائيلية لما جرى ويجرى، كجزء من عملية أوسع.
مع التوسع فى الوجود الروسى بالمنطقة، ظن البعض أن انسحاباً أمريكياً يجرى لأى سبب، بينما رآه البعض الآخر بداية أفول للنجم الأمريكى على المستوى العالمى ككل، إلا أن حسابات أخرى، ربما أكثر واقعية، رأت أن الحاجة الأمريكية إلى النفط السعودى لم تعد كما كانت من قبل، أن الحاجة الأمريكية للدور السعودى فى المنطقة لم تعد أيضاً كذى قبل، أن الحاجة الأمريكية للدور السعودى فى الشأن الإسلامى عموماً لم تعد أيضاً كما كانت.
أسعار النفط أصبحت فى أدنى مستوياتها مع وجود لاعبين آخرين فى السوق، بمواجهة الفاعلية السعودية، ومع اكتشافات نفطية كبيرة وعديدة فى مناطق كثيرة من العالم، ومع استخراج النفط الصخرى الأمريكى حين الحاجة إليه، أما الدور السعودى فى المنطقة فقد تقلص بفعل سياسات سعودية خسرت معها المملكة الكثير من النفوذ، حتى فى تخوم حدودها وجغرافيتها، من اليمن وسلطنة عمان، إلى العراق وسوريا، وحتى إيران ولبنان.
وحتى على المستوى الإسلامى، لم تعد الولايات المتحدة فى حاجة إلى الجهد السعودى فى تجنيد مقاتلين أو مجاهدين أو متطرفين فى أفغانستان، أو الصومال، أو باكستان، بعد أن أصبحت المخابرات الأمريكية تجيد هذه اللعبة أكثر من أصحابها، فنجحت أيما نجاح فى كل الـمَواطن الإسلامية، من الجزائر وتونس وليبيا، ومالى وتشاد ونيجيريا، وسوريا والعراق واليمن، وأفغانستان وباكستان وإيران، وحتى داخل دول الخليج العربية ذاتها، بعد أن هاجرت جماعات المعارضة إلى العواصم الغربية المختلفة، وبذلك انقلب السحر على الساحر.
أذكر فى عام ١٩٨٧ كنت أقوم بتغطية صحفية للاحتلال السوفيتى للأراضى الأفغانية، كانت كل الدول العربية تقريباً تُطلق على المقاومة الأفغانية تعبير «الجهاد الأفغانى»، ذلك أن الولايات المتحدة تريد ذلك، وبالتالى كان هناك «المجاهدون الأفغان»، وبالتالى كان هناك المتطوعون العرب من كل البلدان بلا استثناء، هى الحرب المقدسة إذن، مادامت أمريكا تريدها كذلك، تم الاهتمام كثيراً بالشباب العربى فى ذلك الوقت، تدريباً وتسليحاً، فيما بعد كان بن لادن والظواهرى والقاعدة وطالبان.
فوجئتُ حينذاك بشاب عربى، ضخم الجثة، عريض المنكبين، يسألنى: أنت الصحفى المصرى؟ قلت: نعم، قال: هذا الكتاب لك، نظرت إلى عنوان الكتاب، ذى طباعة باريس الفاخرة، وجدته «الكواشف الجليّة فى كُفر الدولة السعودية» هكذا كان، دون زيادة أو نقصان، سألته: هل أنت من السعودية؟ قال: لا أنا من الجزيرة العربية، قلت: لم أفهم، من أين فى الجزيرة العربية؟، قال: من الحجاز، ليس اسمها السعودية، اسمها أرض الحجاز، منذ ذلك التاريخ اكتشفت ثقافة أخرى جديدة لم أكن أدرى عنها شيئاً، ومنذ ذلك التاريخ كان يجب أن نعى أن هناك أمراً ما يدبر للمملكة السعودية ذاتها، بفعل هؤلاء الذين جندتهم بأموالها، وسهلت لهم الوصول إلى الأراضى الأفغانية، والعمل تحت إمرة الأمريكيين.
هذا الأمر الذى تم تدبيره أيها السادة هو فى جزء منه ما يسمى الآن اختصاراً داعش، أو «الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، هو ذلك القانون الذى يستهدف الأموال والاستثمارات السعودية، هو ذلك السلاح الذى حصلت وسوف تحصل عليه إسرائيل لتنفيذ ما تبقى من مخططات لتقسيم المنطقة، ومزيد من الصراعات الطائفية، هو ما يتصوره البعض انسحاباً أمريكياً من المنطقة، إلا أنه فى حقيقة الأمر السياسة الأمريكية الجديدة، الحصول على ما يريدون أوراقاً نقدية، وليس نفطاً، أو استثمارات، أو حتى بيع سلاح، أو أى شىء آخر.
ما كان يصلح للستينيات والسبعينيات، من وجهة نظر أولاد العم سام، لم يعد مجدياً فى الألفية الجديدة، لنترك الساحة للروس والصينيين يستنزفون قدراتهم فيها، تلك كانت لعبة القط والفأر خلال سنوات الحرب الباردة، الآن هناك البوكيمون، فى السابق، كانت هناك جيوش عربية تتضامن وقت الشدة، الآن هناك ميليشيات تقاتل بعضها البعض، كانت هناك القومية العربية، الآن هناك الطوائف الدينية.
أيها السادة، آن للعقول فى ذكرى هجمات سبتمبر أن تعى وتفهم، كما آن للعجول فى عيد الأضحى أن تتساقط، كلٌّ له عالمه الخاص، وكلٌّ يعى موقعه، وكلٌّ يجنى ثمار أفعاله، هى مسألة وقت، لا أكثر ولا أقل، لذا كان العقاب للسعودية، والسلاح لإسرائيل.
نقلا عن المصري اليوم