الأقباط متحدون - مصر.. و«الظِل المُستقيم»!
أخر تحديث ٠٠:٢١ | الأحد ٢٨ اغسطس ٢٠١٦ | مسري ١٧٣٢ش ٢٢ | العدد ٤٠٣٤ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

مصر.. و«الظِل المُستقيم»!

مصطفى حجازي
مصطفى حجازي

 - ١- «مكان الإصابة»!

 
تقول الرواية- أو النكتة إن شئت- إن عائلة ورثت قصراً منيفاً شهد القاصى والدانى بتفرد موقعه وجلال عمارته.. وجرى عليه من نوائب الدهر ما هدَّمَ بنيانه.. كما أحدَث قاطنوه من التفريط والجهل وأُحدث عليهم من مخازى الاستبداد.. ما كان كفيلاً بأن يُترك القصر متهالكاً وبعضه على وشك السقوط..!
 
بات حال أهلِه بين مصاب وكسير من جراء تساقط ركام البيت فوق رؤوسهم.. وحينما هَمَّ بعضُ من أبناء العائلة- ممن تَصدوا وأصروا على إدارة شؤونها- أن يَضعوا حداً لمصير انهيار القصر أو هكذا زَعَموا.. ذهبوا لأهل الطب.. ولم يذهبوا لأهل الإنشاء والعمارة..!
 
وبدعوى أن العطب هو فى إصابة أخوتهم جراء سقوط الركام.. وليست الكارثة فى تحلل الدار نفسها..!
 
صَدقَّهم من صَدقَّهم.. حتى صَدَّقوا أنفسهم.. فلا مَنطق يحكُمُهم- إن صَدَقوا- إلا التباكى على المكاسير والمصابين..!
 
وحينما ذهبوا لأهل الطب ووصفوا لهم علاجاً يضعونه على «مكان الإصابة».. عاد أبناء العائلة الجادون وكلهم حماسة وإخلاص.. وبمنتهى الجِديّة والهِمّة قاموا بدهان سُلم القصر المتهدم.. وبعض من حوائطه بالعلاج الذى وصفه الأطباء..!!!
 
ولمَ لا..؟!!
 
أليس الدَرَج ومحيط الحوائط هو «مكان الإصابة».. أى حيث أصيب أخوتهم..!!
 
كَذِبُهُم أيها القارئ العزيز إن استطعت..!!!
 
انتهت الرواية أو النكتة.. وبقى أهل الدار ينتظرون نهايات أخرى.. ينتظرونها وهم لا يزالون يبحثون عن دواء الحجر عند أطباء البشر.. وعن دواء البشر عند أطباء الحجر.. ولا يعرفون فرقاً بين هؤلاء ولا هؤلاء..!
 
الأهم أنهم ينظرون إلى قصرهم يتحلل أمام أعينهم وهم يتصايحون ويتنازعون على سلطة الحديث للأطباء والخبراء ووجاهة تمثيل العائلة.. لم يُفيقهم سوء تقدير البلاء.. وعجزهم عن حسن التداوى منه.. حتى وإن حضر دواؤه.. مرات ومرات ومرات..!
 
تلك هى القصة.. بين تخمة من سلطة.. وفقر فى حُكم..!
 
وبين فَيض من كِبرٍ وقلق وغضب.. وغَيض من منطق وحِكمة..!
 
- ٢- السلطة والحُكم والحرب والصراع وأمور أخرى..!
 
«السلطة» ليست هى «الحُكم».. ولكنها مسوغ قانونى وإيذان بشرعية الإدارة فيه..!
 
السلطة هى شرعية اتخاذ القرار.. أما الحُكم فهو أهلية صناعته.. والوعى بالسياق الإنسانى قبل التقنى والسياسى والاجتماعى الذى من أجله يصنع القرار وفى إطاره يُتخذ..!
 
الحكم هو البصيرة التى عليها يُبنى التوجه وتُدرس الأولويات.. أما السلطة فهى الإجراء البيروقراطى لتقنين وإصدار القرار الواجب فى شأن حياة الناس..!
 
التربع على السلطة ليس عنواناً على الكفاءة.. كما أن إحرازها فى ذاته لا يُورِثُ أهلية حُكم ولا يضمنها..!
 
وعليه فليست كل رئاسة قيادة.. وليست كل قيادة زعامة..!
 
فالرئاسة- أى رئاسة لدولة أو شركة- «وظيفة».. أما القيادة فـ«منهج وبصيرة حُكم».. وأما الزعامة فـ«هبةُ وقَدَرُ وقُدرَة»..!
 
كما أن الصراع غير الحرب.. والحرب غير معاركها..!
 
الحرب قتال مادى فى سلسلة معارك.. أما الصراع فهو سُنة تدافع أرادها الله للبشر يوم أن قَدَرَ لهم استخلافاً فى الأرض وقَدَّرَ عليهم إعمارها..!
 
الحرب لها جنودها تربوا على اكتساب البأس وإنفاذه.. تربوا على القتل من أجل الحياة.. وعلى الدمار من أجل البقاء والحماية..!
 
جندى المعركة يحتاج للإعاشة والسلاح المادى.. التقشف والتعبئة المعنوية هى سلاحه النفسى.. لا يجوز فى حقه إرهاف الحس.. بل الخشونة وإغلاظ الوجدان وتربية القسوة كلها واجبة فى حق إنضاج سمته النفسى القادر على القتل والتدمير وقبول التضحية دونما تردد..!
 
تجفيف الجدال وإلغاء العقل أمام إطاعة الأمر هى منطق إنضاج عقله المقاتل.. ونحن إذ نتمثل أعلى درجات التضحية الإنسانية وهى التضحية بالنفس ونحن فى موقع جندى المعركة.. يبقى موقعنا ومسؤوليتنا أمام الله والوطن هى فرع على موقع كل منا كـ«جندى» حياة وصراع وإعمار.. لا الأصل..!
 
أما جندى الصراع أو جندى الحياة أو جندى الإعمار- سمه ما شئت- فلا يحيا إلا بإرهاف الوجدان وحب الحرية ونخوة الإنسانية.. لا يبنى عقله إلا سعة الأفق والدهشة والتساؤل.. واستشراف كل مستغلق عليه من الحقائق.. فلولا الدهشة والجدل والإبداع ما كان العلم وما كان الإعمار فى الأرض وما كان الترقى وطلب الترقى والذى هو عين الجهاد..!
 
صرف الصراع فى الحياة إلى ثقافة حرب القوة المادية احتكام إلى «وهم».. فلولا العقل ما كانت القوة المادية.. ولولا وعينا بطبيعة مسؤولياتنا كجنود حياة وإعمار.. ما كان لأدوارنا ومسؤولياتنا كجنود معارك وجود ولا قيمة ولا قدرة على البقاء..!
 
ولننظر حولنا إلى دول شقيقة.. حين غابت شعوبها بالكلية عن ثقافة صراع الإعمار.. لم تفلح فى أى من المضمارين لا المعارك والحروب المادية ولا صراع بقاء.. حتى وإن كُفِلَ لها من الأموال والموارد ما تنوء به رقاب شعوبها.. ليبيا وغيرها مثالاً..!
 
المجتمعات تبنى بجنود حياة.. هذا هو فرض العين.. ومنها نَفَر يؤهل للمعارك.. وهذا هو فرض الكفاية.. فمن أجل الأوطان تكون الجيوش.. وليس من أجل الجيوش تكون الأوطان..!
 
الخلط بين تلك الأمور.. بجهل أو بسوء تقدير أو بسوء نية.. هو عين مصائبنا..!
 
وهو الخلط الذى ما نهضت أمة فى الإنسانية إلا بعد أن برأت منه وأقرت بكارثيته وأسست حياتها على الإنسانية والوضوح.. بعد أن دفعت أثمانها قتلى حروب وأوطان تبددت وحضارات غابت بعد أن انكسرت..!
 
الخلط بين تلك الأمور هو ما يبقى بلادنا مستنزفة فى غير صراعها الواجب.. وكأنها تحرق مواردها وتحرق مستقبلها..!
 
مصر على مدار تاريخها بقيت مستنزفة فى معارك سلطة.. فى كل مواقع السلطة صغرت أم كبرت.. أكثر من انشغالها باستحقاقات الحياة وصراعها..!
 
لم تكن بالضرورة معارك مادية.. ولكن فيها يكمن جوهر الحركة اليومية للقائمين على أمرها.. إما برغبة فى إحراز موطئ سلطة أو التناطح فى السبيل البقاء فيه..!
 
وهو أمر لم يبقِ من السياسة إلا الدسائس.. ولم يبقِ من الاقتصاد إلا صفقات التركيع أو شراء النفوس أو عناوين التدليس والإلهاء.. ولم يبقِ من المجتمع إلا قطاعات منكسرة أمام قوت اليوم.. وقطاعات أخرى هاجرت داخل ذواتها يراودها الكفر بالوطن.. وقطاعات ثالثة من بغايا كل عصر «هُم لمن غَلب»..!
 
مصر «المواطن» عاشت أبداً مثقلة بطنين الطامحين فى السلطة حيناً.. وبغلظة الخائفين على مغادرتها أحياناً أكثر.. ومصر البيروقراطية متخمة بالسلطة بأكثر مما تحتاج.. ذاهلة عن تحديات الحكم وعلومه وأدواته..!
 
مصر «المواطن» مفتقرة إلى مشروع حكم معنى بترقية شأن الوطن وتمكين المواطن.. ومصر البيروقراطية بقيت أبداً فقيرة فى كل ذلك.. لا تعرف فى شأن المواطن إلا تسكين فوراته واتقاء شره والتدليس على وعيه للتخفف من متطلباته وتجنب مواجهته بحقائق يكون منطقها له لا عليه..!
 
- ٣- إدمان الأزمة..!
 
مصر البيروقراطية المتخمة بالرئاسات والصلاحيات.. والمتخمة دائماً بالسلطة التى تكاد تخنقها.. بها فراغ موحش- لا يكاد يبرحها- فى القيادة والإدارة وحتى الوعى بطبيعة تلك اللحظة من التاريخ..!
 
مصر البيروقراطية.. لا تستطيع- برغم حديث لا ينقطع عن التحديات والمشاكل- أن تسمى أصل مشاكلنا.. ولا أبالغ إن قلت مصر الشعبية بِرُمَتِها صارت تعرف اسم المشاكل ومبانيها وتعجز عن توصيف حقائقها وأصلها..! مثل «أهل القصر» يعرفون أنهم جرحى ومكاسير الركام المتساقط فوق رؤوسهم.. يتباكون على ذلك كل يوم بل كل لحظة.. ويتصاخبون بضرورة وضع حل وحتمية النجاة وإعادة القصر «قد الدنيا».. ولكنهم لا يستطيعون أن يتبينوا أنهم لا يعرفون كيف يعيدون إعماره.. وأنهم جاهلون بعلوم صيانته وتشييده.. وأن تلك علوم لها من يملكون ناصيتها وكثرة الحديث باسمها لا يورث خبرتها..!
 
مصر البيروقراطية ذهبت بوجع السياسة إلى أهل الاقتصاد.. وبوجع الاقتصاد إلى أهل الإعلام.. وبوجع المجتمع كله سياسة واقتصاداً وتعليماً وإعلاماً إلى أهل الأمن.. بعد أن كَفَرَت بكل من دونهم من أهل اقتصاد وسياسة وعلم وفكر وكَفّرتهم وطنياً..!
 
فهم فى نظرها بين موتور وخائن.. ومُتهَم بإعمال عقله.. ومُتلَبس بإشاعة المنطق.. وطموح بائس يحلم بأن يعالج الحجر أهل الحجر وأن يعالج البشر أهل البشر..!
 
مصر البيروقراطية تتلهف لروشتة «صندوق النقد الدولى».. ولا أبالغ إن قلت إن روشتة النقد الدولى ليس بها من جديد واحد عن أوجاع مصر الاقتصادية الآن وإن تفاقمت.. وعن أوجاعنا قبل خمس سنوات أو عشر سنوات أو ثلاثين سنة.. وهى أقل تفاقماً.. ولكنها روشتة علاج كالذى وصفه الطبيب لمصابى القصر ومكاسيره.. له ضوابط تسبقه وعلم بأصل الداء أين يبدأ فى هيكل قصر متهالك.. وأين ينتهى فى ساكن للقصر يموت كل يوم تحت الركام المتهاوى فوق رأسه ورأس أبنائه..!
 
الحل التقنى فى حديث الاقتصاد.. لا جديد فيه ولن يكون فيه جديد.. ولكن الجديد الغائب أو المغيب دائماً هو حديث السياسة والمجتمع.. حديث العقل الذى قد يرفع بعض من علامات الدهشة والتعجب حين يرانا نستخدم الأدوية التى وصفت لجروح الاقتصاد فى «تزيين» الدَرَج السياسى المكسور أو الحائط المجتمعى المتهدم.. فلا اقتصاد داوينا.. ولا بعطب سياسة وإعوجاج مجتمع أقررنا.. أو نوينا أن نقيمه بعد أن نستقيم..!
 
مصر البيروقراطية العميقة- المزمنة حتى الآن- مدمنة للأزمة تحيا بالرمادية وفيها..!
 
خوفاً على سلطتها.. تخشى القطع فى أى شأن.. كى لا يبدو عجزها أو تُضبط متلبسة بفشل أو تتحمل كما ينبغى أن تتحمل مسؤولياتها أمام ما أعطيت من صلاحيات.. تفعل ذلك كله متوهمة أن ذلك يبقيها فى مراتب أنصاف الآلهة فوق النقد وفوق الفشل وفوق المسائلة.. ويضمن لها الهيمنة المطلقة على مجتمعها..!
 
ولكن الحقيقة أنها وإن توهمت أنها تملك رقاب الناس.. فلاهى تملك عقول الناس ولا قلوبهم..!
 
مصر البيروقراطية.. المتلبسة مواقع أنصاف الآلهة أورثت مجتمعها خبلاً.. فمقابل كل إصرار على احتكار سلطة.. ابتدع المجتمع لنفسه سلطاته وصلاحياته.. وصار فوق القانون كما أرادت سلطته لنفسها أن تكون فوقه..!
 
ولأن احتقار القانون وكسره وابتذاله وتطويعه للمصلحة الخاصة هو دأب السلطة.. لم يُرَبَ المواطن إلا على ذلك.. ولم يُرِد غير ذلك… فهو لا يعرف عن القانون إلا كونه قَدَرُ مُنَزَلُ عليه لإخضاع رقبته..!
 
مصر «المواطن» ترى القانون سلاحاً فى يد سلطته من أجل إذلاله وتحجيم حركته ولا مردود خيراً منه.. ولا يراه سلاحاً يقيم العدل ويدرأ الظلم ويؤمن حياته.. فما كان من هذا المواطن إلا أن استعدى القانون فلسفةً وفكرةً.. قبل أن يخترقه نصوصاً ويكسره ممارسة..!
 
ما كان منه إلا أن أنفذ قوانينه هو.. ونظرة واحدة إلى حال شوارعنا ومحافلنا العامة لنعرف أين يقع القانون من أصحاب السلطة ومن المحكومين.. الكل يهينه.. الكل لا يعبأ به.. الكل ينافق باسمه.. الكل فى عَنَتٍ من أن يجرب أن يكون القانون سبيله لحياة أسكن وأعدل وأرقى..!
 
تُخمتا «السلطة» وفقر «الحكم» على مدار عقود.. ذهبت بالاقتصاد من التأميم.. إلى الخصخصة.. إلى المصادرة المقنعة والاحتكار الناعم والتأميم لصالح مؤسسات لا لصالح دولة..!
 
تُخمتا «السلطة» وفقر «الحكم» على مدار عقود.. أحالت مؤسسات الوطن إلى إقطاعيات.. ثم ما لبثت وبدعوى إعادة تأهيلها والحد من فسادها.. ذهبت بها إلى خنقها تحت وطأة ترهلها.. ثم إلغاء أدوارها واحتكار مقدراتها والهيمنة التامة عليها وتجفيف ما بقى فيها من كفاءات بالعنصرية المؤسسية..!
 
تُخمتا «السلطة» وفقر «الحكم» على مدار عقود.. ذهبت بتعريف الوطنية من التحرر من المستعمر.. إلى التوحد مع صاحب السلطة.. إلى احتكار الوطنية والأثرة فيها وإنكارها إلا على نفر بسيط يتقلص كل يوم..!
 
تُخمة «السلطة» وفقر «الحكم» على مدار عقود.. ذهبت بنا إلى أسئلة نهائية إن فُتِحت لن تغلق إلا بإجابات تتبنى المنطق قبل أن تبنيه وتُكرَسه.. ولكنها إجابات كاشفة صادمة منشئة لواقع جديد.. ومنها مثالاً لا حصراً.. «إنت عملت إيه لمصر..؟!».. وهو النسخة المصرية من الحسبة الوطنية..!
 
تُخمتا «السلطة» وفقر «الحكم» على مدار عقود.. ذهبت بتعريف الدين من الرغبة فى تزكية النفس وإحراز مصالح الناس وتحقيق مراد الله فى خلقه.. إلى الانسحاق أمام أفهام سياسية ومذهبية للدين.. إلى احتكار جماعات للحديث باسم الله وإنكار الإيمان على كل أحد إلا من تباركه سلطة المتنطعة..!
 
وأخيراً آن لنا أن نعى أن..
 
الاقتصاد فرع على أصل السياسة والمجتمع.. النجاح فيه «ظلُ» لاستقامة السياسة وإيمان المجتمع بملكيته لوطنه وشراكته فى المصير..!
 
والسلطة فرع على أصل الحكم وصلاحها «ظلُ» لِرُشد الحكم..! ولن يستقيم «ظلُ» و«العودُ أعوجُ».. هى بديهية لو وعيناها نجونا من مصير «نُكتَة» عائلة القصر.. نجونا من مصير مجتمع «رضى بجهلِه ورضى عنه جَهلُه»..!
 
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلا عن المصرى اليوم

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع