بقلم: ليديا يؤانس
تذكرت الحادث المُؤلم، لحرق الطيار الأُردني "معاذ الكساسبة" حيًا، عندما جهزت داعش، قفصًا حديدًا ووضعته فيه وحرقته!
هكذا قد تصل درجات، الكُره والحقد والإضطهاد، للِتفنُن في قسوة ووحشية، لإذلال وتعذيب وقتل البشر بلِا رحمة وبلِا تمييز.
ولكن أن تصل قِمة الإضطهاد والغِل، إلي حرق رُفات شخص مات، وشبع موتًا مِنْ سنين .. فهذا شي لا يُصدقه عقل!
ولكن يجب أن تُصدِقوا، لآنه مثبوت تاريخيًا، أن القائد العُثماني سنان باشا، قد حرق رُفات القديس سابا الصِربي عام 1594م.
سابا أو القديس سابا، هو أقرب القديسين إلي قلب الشعب الصِربي، وهو الإبن الثالث، لأمير صِربيا الأكبر، استيفانوس نامنحا التقي.
سابا ولد في عام 1169، وأخذ في المعمُودية اسم "رادكو" أو "راتسلاف" .. والذي يعني "هلالاً".
مِنْ الطريف أن القديس سابا، الذي أصبح في يوم ما، رئيس أساقفة صِربيا، وأسس دير خليندار الآثوسي، تسلم وهو في سِنْ الخامسة عشر، حُكم مُقاطعة هرزكوفيتا، و في سِنْ السادسة عشر، عرض عليه أهله الزواج ، ولكنه تهرب مِنْ فكرة الزواج.
في ذلك الوقت، جاء رهبان صِرب، من جبل آثوس، وعلي رأسهم شيخ روسي، يلتمِسون العون مِنْ الأمير الأكبر، ولكن كانت أُذن سابا، مُصغية بِشغف، لِما يقوله الشيخ الراهب، بشأن الحياة النُسكية الرهبانية علي جبل آثوس.
كانت كلمة، أو بمعني أصح آية، هيّ التي إصطادت سابا لِلنعمة، لتُغير مجري حياته، مِنْ حياة الملوكية الأرضية إلي حياة الملوكية السماوية، لتُغير حياته، مِنْ الإهتمام بمجد العالم، إلي الإهتمام بمجد الله.
لقد سمع سابا، من الشيخ الروسي هذه الآية، "مَنْ أحب ابا أو اما أكثر مِني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني" (متي 37:10).
إختار سابا علي الفور أن يحمل صليبه ويتبع المُعلم، لم يستطع مُصارحة والده الأمير الأكبر، ولا العائلة، ولأنهُ أيضًا كان حاكِمًا علي مُقاطعة مِنْ مُقاطعات الدولة، فلجأ إلي حيلة لتحقيق رغبته في الرهبنة!
طلب مِنْ والده، أن يُباركه ليذهب في رحلة صيد للغزلان .. فباركهُ، ولما حظي بما إشتهته نفسه، إنطلق في أثر المسيح.
في الأول إنضم إلي دير بندلايمون، وللأسف سرعان ما إهتدي لمكانه واحدًا مِنْ قصر أبيه، فصعد إلي برج الدير للإختباء، وسرعان ما قرر أن يرتدي الثوب الرهباني، وأتخذ لنفسه اسم "سابا" في الرهبنة، بدلاً مِنْ اسم المعمودية "رادكو".
في الصباح، فوجئ زوار الدير، بأن رادكو يُلقي إليهم، مِنْ أعلي البرج، بشعره المقصوص، وثيابه المُلوكية، ووجدوه مرتديًا الثياب الرهبانية، وأخطرهم، بأنه أصبح راهباً وأصبح اسمه سابا، وارسل معهم، رسالة تعزيه لوالده، ثم أصبح راهباً في دير فاتوبيدي تحت قيادة الأب (الشيخ) مكاريوس.
زاد إعجاب الرهبان به، لتِجرُده الكامل وتواضعه وطاعته المُطلقة وحرصه علي الأصوام والصلوات، كما إعتاد زيارة الأديرة وحرص علي أداء المناسِك الآثوسية حافي القدمين كما يفعل النُساك.
أثري برغبته في النُسك، لأبيه الشيخ فلمْ يُعطيه البركة، ولكن خلال هذه الفترة مِنْ الرهبنة، تثني لهُ، أن يتُقِنْ اليونانية، فنقل مِنْ كنوز التُراث الآبائي والليتورجي والقانوني الكنسي، إلي السلافية لغة شعبه.
بتأثير من سابا تخلي والده عن العرش، وسلمه لأبنه الثاني، وترهبن هُوّ في دير صربي آخر اسمه ستودبينيتا، وأتخذ له اسم "سمعان" في الرهبنة، ومِنْ هُناك إنتقل إلي الجبل المُقدس، وإتخذ مِنْ إبنهِ سابا أبًا روحيًا لهُ، وبحُكم سنه الكبير لم يكُنْ في طاقته أن يقوم بالفروض النُسكية المطلوبة مِنْ الرهبان، فأخذ سابا علي عاتقه أن يُضاعف جهاداته الخاصة عنه وعن أبيه.
أسس الراهبان سابا وأبيه، دير خليندار، الذي صار مركزًا للرهبانية والثقافة الكنسية الصربية.
في سنة 1200م رقد في الرب سمعان والد سابا، وللحال جرت عجائب وطيب مِنْ رفاته، وهو واحدًا مِنْ قديسي الكنيسة الأرثوذكسية، وتعيد له في 13 شباط.
بُناءًا علي رغبة الشعب الصربي وأخواه، رجع سابا ألي صربيا، واصبح رئيسًا لدير ستودينيتسا، ثبت الشعب علي الإيمان الأرثوذكسي، قاوم الهرطقات، بني الكنائس والأديرة، نظمها علي النمط الآثوسي، وأسس دير زيخا الكبير، الذي أصبح فيما بعد مركزًا لِرئاسة الأساقفة الصربية، ومركزًا للحياة الكنسية في البلاد.
في سنة 1219 منح الأمبراطور البيزنطي تيودوروس، الكنيسة الصِربية استقلالها الداخلي، وسيم سابا أول رئيس أساقفة.
في سنة 1230 خرج سابا ليحج في الأماكن المُقدسة، ثم في سنة 1233 تنازل عن رئاسة الأساقفة، وجال هائمًا علي الأراضى المُقدسة وسيناء وأنطاكية، ثم رقد في الرب، في 14 كانون الثاني 1235 في تيرنوفو البلغارية.
بقي جسده في كنيسة الأربعين شهيدًا هُناك، إلي أن جاءالأمير الصِربي فلاديسلاف، واستعاد رفات القديس سابا، واستقر في دير ميلاسيفو الصربي، الذي أصبح مزارًا للحِج، واستمر كذلك إلي، أن جاء سنان باشا التُركي وحرق رفات القديس سابا.
في الموقع، الذي حرق فيه القائد العُثماني سنان باشا، رفات القديس سابا عام 1594 وضعوا الأساس لبناء الكنيسة، أو بمعني أصح هذه الكاتدرائية الأرثوذكسية، ولكن تم بناؤها في الذكري ال 300 لتلك الواقعة، وأطلقوا عليها اسم "كاتدرائية القديس سابا بالصربية".
أطلقوا علي هذه الكنيسة اسم كاتدرائية نظرًا لضخامتها، حيث أنها تُعتبر واحدة مِنْ أكبر الكنائس الأرثوذكسية في العالم، وأيضًا تُصنف علي أنها، واحدة مِنْ أكبر مباني الكنائس في العالم.
خُصِصت هذه الكاتدرائية للقديس سابا، وهو مُؤسِسْ الكنيسة الأرثوذكسية في صِربيا، حيث أنه شخصية مُهمة في صِربيا مُنذ القرون الوسطي.
تقع الكاتدرائية التي تستوعب حوالي 10 آلاف شخص، فوق تلة عالية تُطل علي بلغراد، وهي تحمل الطابع المعماري الصِربي والبيزنطي.
بلغراد هي عاصمة صربيا، وأكبر مُدنها علي الإطلاق، حيث تقع عند نقطة إلتقاء نهري السافا والدانوب، هذا الأمر الذي جعل مِنْ هذه المدينة إحدي أكبر المدن في جنوب شرق أوروبا.
أما دولة صربيا، فهي تُعرف رسميًا باسم جمهورية صِربيا، وهي تقع في مُفترق الطُرق بين وسط وجنوب شرق أوروبا.
الهيكل الخارجي للكاتدرائية، والذي تم الإنتهاء مِنْ بناؤه، يُعتبر بالفعل واحدًا مِنْ أهم المعالم المُميزة لمدينة صربيا، وقد صرح المعماري فويسلاف ميلوفا نوفيتش للأناضول، بأن روسيا تقوم بدور كبير في تمويل بناء هذه الكاتدرائية، وأنه قد تم بالفعل الإنتهاء مِنْ مُعظم أعمال البناء.
وبدأ العمل في اللوحات الفُسيفسائية مُنذ أبريل الماضي، ومِنْ المخطط الإنتهاء مِنْ العمل بها في عام 2019 أي في الذكري ال800 لإنشاء الكاتدرائية.
ومِنْ المُفارقات اللطيفة، أن هذه الكاتدرائية، في إنتظار إفتتاحها لِما يقرُب مِنْ القرن والرُبع مِنْ الزمان، وهذا لم يمنع مِنْ توافد المُصلين والزوار عليها.
نُصلي، أن يُتمم الله عمله، ببركة وشفاعة، القديس سابا، ويتم الإفتتاح في عام 2019م.