المخ (الدماغ)، الوعي، الروحانية 1-2
بقلم: راندا الحمامصي
انتهينا في المقال السابق بإن العالم ولسون يؤمن بأن "ما في أعماقنا، ومنها أحياناً معظم قِيَمنا الإنسانية، إنما تُقَرَّر جسمانياً وهذا ما يُفسِّر ’ميلَنا الشديد في التعبير عن حالة حزننا أو غضبنا أو ربما إثارتنا الجنسية ببعض الحركات الخاصة في وجهنا."
دعونا ندرس في هذا المقال هذه المسألة (السابقة) بتمعّن؛ يتكلم ولسون عن "ما في أعماقنا وأحيانا معظم قيمنا الإنسانية"، ويذهب إلى تحديدها من قبيل الحزن والغضب والإثارة الجنسية، ثم يوضح بأن تلك التي في "الأعماق" و"معظم القيم الإنسانية" تُقَرَّر جسمانياً، بسبب "ميلنا الشديد في التعبير عنها بحركات خاصة في وجهنا". قد نتساءل هنا لماذا يَعتبر الحزن والغضب والإثارة الجنسية من أعماق القيم الإنسانية؟ إذ هي في الحقيقة استجابة طبيعية لحالات من الحرمان والتهديد والإثارة التي يتشارك فيها الإنسان والحيوان. فكيف إذن وصفَ هذه الإنفعالات على أنها ضمن القيم الإنسانية؟ إن ما يُحيل هذه الإنفعالات إلى قِيَم إنسانية لأننا نملكها ليس بالكيفية التي يملكها الحيوان، بل بطبيعتنا البشرية الفريدة التي بها نملك القدرة والميل نحو الإرتقاء بهذه الإنفعالات المتجذّرة فينا جسمانياً إلى عوالم روحانية تمدّنا بالخلاّقية وتبيّن لنا المعنى والهدف. فالحزن يصبح عند الإنسان موصولاً بالمحبة وبالوحدة وكذلك في الإنفصال، والغضب يوجَّه نحو رفض الظلم أو الفقر أو الجهل، والشهوة الجنسية تصبح أداة مسخّرة للتعبير عن تَوْق الروح الإنساني إلى الوحدة بين الزوجين وإلى الخلاّقية والإبداع. في هذه المستويات فقط تأخذ الإنفعالات مكانتها الرفيعة ضمن القيم الإنسانية الفريدة. ولكن ماذا عن حركات الوجه التعبيرية التي اعتبرها ولسون دليلاً على أن القيم الإنسانية يحدِّدها الجسد؟ فكما لاحظنا سابقاً فإن الجسد هو وسيلة التعبير عن حقيقة الحياة الإنسانية؛ فكِلا قوانا المادية ومناقبنا الروحانية تَظهر للعيان على شكل حركات وأفعال هذا الجسد، بحركات في الوجه أو أجزاء أخرى من الجسم. وبما أن جسدنا هذا هو آلة التعبير عن انفعالاتنا (وعن أفكارنا وقِيَمنا أيضاً)، فإنه لا يناقض الحقيقة بأننا إذن نملك الخيار في كيفية استخدام انفعالاتنا. فالإنسان الروحاني يوجِّه غضبه نحو تحقيق العدالة بدل إيقاع الظلم وإشباع الأنانية، والجنس هنا يغدو ممارسة سامية بين الطرفين لا اغتصاباً في شكل هجوم وحشي، والحزن يصبح وثيق الصلة بالمعنى والمحبة بدل أن يكون تعبيراً خالياً من أي معنى مسبِّباً الإرتباك لا غير. في حالات كهذه تغدو تعبيرات الوجه ثانوية في الأهمية.
إنه موضوع على جانب كبير من الأهمية ويحتاج منا مزيداً من الإهتمام. فلنرجع إلى ولسون وما جاء في كتابه آنف الذكر:
... إن المعرفة الذاتية تتشكل وتُختَزن داخل مراكز التحكُّم في الإنفعالات في الجزء الجوفي والوطئ من المخ، ومنها يأتينا الوعي بهذه الإنفعالات – الكراهية والحب والشعور بالذنب والخوف وغير ذلك – وهي التي يتشاور فيها فلاسفة الأخلاقيات الذين يرغبون في وضع معايير الخير والشرّ وقواعده. وهنا علينا أن نتساءل: ما الذي كوّن هذه الأجزاء الجوفية والواطئة؟ لقد تكوّنت نتيجة "الإصطفاء الطبيعي".( الإصطفاء الطبيعي هو العملية الطبيعية المُفْضِية، في رأي داروين، إلى "بقاء الأنسب".) ولذلك يحتاج هذا الواقع البيولوجي إلى متابعته حتى نجد تفسيراً للسلوكيات والفلسفة السلوكية.
نجد هنا أمامنا مثالاً جيداً عن المعركة الدائرة بين العلم والدين حيث العلم فيها هو المهاجِم. فلنعد إلى المقولة وندرسها. هي تبدأ في الإشارة إلى المعرفة الذاتية غير المحددة. "فالمعرفة الذاتية" هنا خاضعة للفحص الدقيق لأنها ظاهرة إنسانية فريدة، إلا أننا ندرك على الأقل أنه لا وجودَ لجنس آخر يملك المعرفة الذاتية، وأننا كمخلوقات إنسانية ننفرد بهذه المعرفة. فإذا كان هدف علماء التطور (من بين العلماء الآخرين) أن يثبتوا أن المخلوقات البشرية ما هي إلا من فصيلة الحيوانات، وأن المعرفة الذاتية شيء موهوم ومشكوك فيه، عندها تغدو مهمتهم أكثر يُسراً وسهولة.
فالمقولة المذكورة التي تشهد بأن "المعرفة الذاتية تتشكل وتُختزن داخل مراكز التحكّم في الإنفعالات..." تبدو لنا صحيحة لو أخذناها سطحياً، ذلك لأنه في كثير من الأحيان تتأثر معرفتنا الذاتية بانفعالاتنا، ولكنها مع ذلك لا تنبع منها أو تكوّنها. فالمعرفة الذاتية لها حقيقتها الواضحة المميّزة وقد تتأثر بعواطفنا وانفعالاتنا. وفي واقع الأمر تقول الحقيقة عكس ذلك بأن انفعالاتنا تُشكّل وتُختزن بفضل معرفتنا الذاتية مما جعل حتى ملاحظة ولسون تبدو منطقية.
إن تاريخ الحضارة الذي يشهد تطوّر الإنسانية اجتماعياً وروحياً لهو مثال حيّ على مدى تأثيرات المعرفة الذاتية على انفعالاتنا. فهو يرينا بأن الإنفعالات قد استُخدمت لصالح المساعي
البنّاءة، إلا أنه في الوقت نفسه هناك الدلائل التاريخية الوفيرة على فشلنا في استعمالها إيجابياً أيضاً. وهذا ما يجب أن يحظى باهتمام كبير: كيف يمكن لنا أن نطوّر معرفتنا الذاتية بحيث تصل بنا إلى تغلُّب الجانب الروحاني على الغرائزي؟ هذا هو جوهر الكيان الإنساني – التسامي عن غرائزنا الموروثة وتحطيم قيودها بالدخول في فضاء الحرية الحقيقية، أي التحرر من عبودية توجهات ميولنا الشبيهة بالحيوان.
وتذهب نظرية ولسون إلى القول بأن مراكز التحكم في كل من الفصّ الجوفي والجزء الوطئ تغمرُ وعْيَنا بالإنفعالات بأنواعها، وبهذه الطريقة تُخزّنها وتشكّل معرفتنا الذاتية. حسناً، ولكن ربما نتساءل ما هو الوعي، هل هو مطابق للمعرفة الذاتية؟ من أين ينبع ويتولّد؟ وكيف يستطيع الوعي المغمور بالإنفعالات أن يشكّل معرفتنا الذاتية؟ أليس هذا ما يشكل إحدى الفوارق الأساسية بين الحيوان والإنسان بأن الحيوان لديه انفعالات ولكنها تفتقر إلى الوعي أو التحكم بها، بينما الإنسان لديه تلك الإنفعالات ويعرف أنه يملك الخيار في أسلوب التعبير عنها؟
يشير ولسون بشكل أساسي إلى أن الجزء الوطئ (جزء من الفصّ الجوفي) هو موقع انفعالاتنا، وأن تلك الإنفعالات هي التي تؤثر على وعينا. إنه محقّ في ذلك، وصحيح أيضاً أن الجزأين الوطئ والجوفي قد تطوّرا عَبر ملايين السنين طبقاً لنظرية التطور والإرتقاء.
على أن هذه المشاهدات ليس فيها ما يعالج الإعتبارات الجوهرية وهي الأصول التي انبثقت منها المعرفة الذاتية والوعي. وهنا يمكننا التساؤل ما هي قوة التطور؟ هل هي قدرة الإصطفاء الطبيعي لوحده؟ وماذا عن انجذاب الوعي الإنساني الذي يستحثّ العقل باستمرار نحو التطور والعمل في مستويات أرفع وأعلى؟ فبينما نظرية التطور تبحث عن تفسيراتٍ للسلوك الإنساني من منطلق أهمية تطوره في التكيُّف عبر ملايين السنين، فإن سيكولوجية الروحانية تروم تفسير السلوك الإنساني من منطلق رد فعلنا التلقائي تجاه قوى تطور العقل (أو الروح). وبمعنى آخر فإن التطور الإنساني كان وسيبقى يجمع ما بين التطوريْن البيولوجي والروحي معاً. وبينما نحن نمتلك معرفة أوفر عن تطورنا البيولوجي، فإننا بالكاد بدأنا خطواتنا في الدراسة والبحث في تطورنا الروحي. فالعلاقة بين هذين التطوريْن تغدو واضحة جلية عندما ندرس قشرة المخ الخارجية "Cortex"، إلا أنه قبل أن نتحدث في عمل هذه القشرة هناك نقطة أخرى يجب التطرق إليها.
في نقاشه مع ولسون لاحظ رستاك أنه طبقاً لما يراه ولسون فإن المحبة تشارك الكراهية، والعدوان، والخوف... إلخ في جهاز الفص الجوفي. وهنا أشار رستاك إلى أنه إذا كان الأمر كذلك أليس من الأجدى أن نتغلب على القيود البيولوجية المفروضة علينا بواسطة جهازنا الجوفي في المخ. يجيب ولسون بقوله: "مع أننا نستطيع التغلب على تلك القيود، إلا أن ذلك يكلّفنا ثمناً باهظاً اقتصادياً واجتماعياً من حيث الوقت والجهد والوسائل." ويذهب عندئذٍ ولسون إلى القول كم هو صعب، على سبيل المثال، إذا كان علينا تجاهل برنامجنا التطوري الذي أصبحنا فيه من "أكلة اللحوم" إلى برنامج نصبح فيه "نباتيين". أو كيف يكون الأمر لو حاولنا "تجاهل الفروق البيولوجية" لنخلق مساواة بين جنسَيْ الرجال والنساء. ويشعر ولسون بأن الشيء نفسه صحيح لو طبقناه على العدوان، ذلك لأن تحقيق السلام له ثمنه. ﻓ"التعايش السلمي لا يأتي ’بشكل طبيعي‘ بل يتطلب ثمناً قوامه الوقت والجهد والمال." ومع ذلك، فإن رغبة ولسون فيما يتعلق بالسلام أن يكون على الأقل "مُتَكَلَّفاً"، ويعتبره "هاماً يستحق كل هذا الثمن". ويذهب إلى قوله بأنه شخصياً أقل درجة في تأكيده على حِكْمة تحقيق أهداف أخرى.
إن هذه الرؤى بعيدة عن أن تكون لها قيمة في المشاهدات العلمية الحرة. فهي نتاج العقول والقلوب وقريبة من الحقائق الروحانية وتقف على حدود التشابه الجسماني بين الإنسان والحيوان. فالنظريات العلمية لها طبيعتها المغرية لأنها تغنينا عن الحاجة إلى تحمُّل مسؤولية سلوكنا العنيف والهدّام ونمط من الحياة قائم على التساهل والإنطلاق بكل حرية. كما أن هذه التفاسير مغرية أيضاً لأنها تبدو مستندة إلى حقائق علمية. إلا أنه كما رأينا سابقاً فإنها قائمة على قِيَم مادية منحرفة. (من سيكولوجية الروحانية)
ونستكمل في المقال القادم قشرة المخ الخارجية "Cortex"............... تحياتي
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :