مقالات متعلقة تحدثنا فى مقالتنا السابقة «السكْرِتير الهارب!» عن «البابا يوحنا الرابع» وعَلاقته الطيبة ببطاركة «أنطاكية» التى طالما عبّرت عن المودة العميقة والشَّرِكة بين الكنيستين، وتطرقنا إلى اهتمام ذلك البابا ببناء الكنائس وتزيينها وبرعاية شعبه وتفقدهم وتثبيتهم على الإيمان الأُرثوذكسى، وإلى موقفه أثناء المجاعة التى اجتاحت البلاد، حيث قدَّم كل ما كان لديه للمِصريِّين جميعًا دون تفريق حتى رفع الله تلك المحنة عن البلاد. ثم تكلمنا عن هروب تلميذه «مَرقس» من سيامته أسقفًا على «بابلون»، وعن تهديم الكنائس الذى أدمى قلب «البابا يوحنا» فغادر «الإسكندرية» إلى «الفسطاط» ليقف بنفسه على أمر تلك الكنائس وما يحدث بها، وقد امتلأت نفسه أسى وحزنًا واعتُصر قلبه ألمًا لِما رآه من تهديم للكنائس، ويذكر المؤرخون: «وانهمرت الدُّموع من عينيه لرؤيتها على هذا الحال».
وحدث أن قرر «البابا يوحنا» أن يصلى «عيد الميلاد» وهو فى «الفسطاط»، فصلى فى كنيسة كانت بغير سقف بعد أن تهدَّم، فلما رأى ذلك حزِن جدًّا، وارتفع قلبه بالصلوات فى دُموع لا تتوقف، طالبًا إلى الله أن يهب نعمة له وللشعب من أجل إصلاح ما تهدَّم، فما كان من أمره إلا أن حدث معه كما حدث مع «داود النبى» والملك حين رغِب فى بناء بيت لله- إذ أرسل الله إليه قائلاً إن ابنه الملك «سُلَيمان» الآتى من بعده هو من سيقوم ببناء ذلك البيت: فقد ظهر «للبابا يوحنا» ملاك من السماء يُعْلمه بأن جميع أعماله وأمانته موضوعة أمام الله الذى لا ينسى كل عمل للمحبة، وأنه من أجل صلواته تلك سيمنح الله البابا الآتى من بعده هبة تجديد الكنائس التى هُدِّمت. ففرِح «البابا يوحنا» وامتلأ قلبه بالفرح والسلام واطمأن إلى ما سيؤول إليه حال الكنيسة. وكان بعد ذلك بقليل أن شعر البابا ببعض التعب، فأدرك أنه سيترك هذا العالم قريبًا، فعاد إلى «الإسكندرية» حيث أوصى بالبابا الآتى من بعده وأعلم الأساقفة أنه «مَرقس» سكْرِتيره، وانتقل من هذا العالم بعد ذلك بأيام قليلة، بعد أن أقام على الكرسى المَرقسى قرابة أربعة وعشرين عامًا. ويتفق يوم ميلاد هذا الأب المبارَك أن يكون هو يوم سيامته بطريركًا ويوم نياحته!!
وفى تلك الأيام، مات الخليفة «مُحمد المهدى»، وقد اختلف المؤرخون فى ذكر سبب موته، وبذلك انتقلت الخلافة إلى ابنه «موسى الهادى» الذى حضر من «جُرجان» إلى «بغداد»، ليتولى أمور الحكم عام ١٦٩هـ (٧٨٥م)، وقد أراد أبوه «المهدى» أن يقدم أخاه «الرشيد» عليه فى الخلافة ولكنه مات فى الطريق إليه فآلت إلى «الهادى» الخلافة.
الخليفة «موسى الهادى» (١٦٩-١٧٠هـ) (٧٨٥-٧٨٦م)
رابع خلفاء الدولة العباسية، تولى الخلافة وهو فى الرابعة والعشرين. وكان- كما ذكرنا- فى ولاية «جُرجان» عندما تُوُفِّى أبوه، فأرسل إليه أخوه «الرشيد» خاتم الخلافة وكتب إليه يعزيه فى موت أبيه ويهنئه بالخلافة، إلا أن مدتها لم تطُل. اشتُهر بشجاعته وإقدامه، وجَراءته، وكرَمه، ومحبته للأدب، وتشجيعه للشعراء، إلا أنه حازمًا يميل إلى الغدر!
ومع بَدء حكمه، قام «الهادى» بمنع أُمه من التدخل فى شُؤون الدولة كما كانت تفعل فى أيام زوجها وقوِى نُفوذها جدًّا، وكذلك حرَّم عليها مقابلة رجال الدولة، وأمر قواده ورؤساء الدولة ألا يحضَُروا المجالس التى تقيمها ولا يلتقوها مهددًا إياهم بعقوبة الإعدام. وكان من جراء ذلك أن حملت له أمه عداوة وكراهية شديدة، وبدأت فى تجميع مناصرين لها فأصبح فى الدولة حزبان: أحدهما يؤيد الخليفة، والآخر يؤيد أمه الملكة، وكان الحزبان فى تناحر شديد.
كذلك حاول «الهادى» أن ينقُل الخلافة من أخيه «الرشيد» إلى ابنه «جعفر»، وكاد أخوه يجيب طلبه لولا تدخل صديق له يُدعى «يحيى بن خالد» الذى نصحه بالابتعاد، فى حين أخذ يحدث هو «الهادى» عن خطأ نقل الخلافة. ولكن الخليفة لم يقبل من «يحيى» وأمر بسَجنه، وهكذا ظل «الرشيد» بعيدًا حتى مرِض أخوه ومات.
وفى مدة حكمه القصيرة، تصدى «الهادى» لبعض الثوْرات من «الخوارج» فى الجزيرة، و«العَلَويِّين» فى «مكة» و«المدينة»، فقاوم «الخوارج» و«الزنادقة» بحزم وقسوة شديدة. كذلك قتل «الحُسين بن على بن الحسن» فى معركة عند مكان يعرف بـ«الفخ»، التى انتهت المعركة بقتل «الحُسين» وكل أتباعه. وقد فر كل من «يحيى بن عبدالله بن الحسن» إلى «بلاد الدَّيلَم»- تقع فى الجنوب الغربى من شاطئ «بحر الخزر» وتتبع« بلاد فارس»- حيث قام بثورة لم تنطفئ وطئتها إلا فى عصر «الرشيد»، فى حين هرب أخوه «إدريس بن عبدالله» إلى «بلاد المغرب» حيث أسس دولة «الأدارسة».
تُوُفِّى «الهادى» عام ١٧٠هـ (٧٨٦م)، ولم يُعرف سبب مرضه وموته، وإن كان بعض المؤرخين يعتقدون أنه قد يكون مات بفعل سُم دسَّته له أمه فى الطعام. ومع قِصر عهده، فإن نفوذ «الفُرس» اشتد فى أيامه، وانتشرت عاداتهم التى ظهرت على نحو واسع فى أيام خلافة أخيه «الرشيد». وفى أيامه تولى حكم «مِصر» «الفضل بن صالح».
«الفضل بن صالح» (١٦٩هـ) (٧٨٦م)
وهو «الفضل بن صالح بن على بن عبدالله بن العباس»، ولّاه حكم «مصر» الخليفة «مُحمد المهدى» بعد أن عزل «عسّامة بن عمرو». إلا أن «المهدى» مات قبل توليه الحكم، فعندما خلفه ابنه «الهادى» أقر «الفضل» على حكم «مِصر». ويذكر المؤرخون أنه كان يتسم بالشجاعة والإقدام كما كان شاعرًا وأديبًا يكتُب الخُطب والأشعار. وعند وصول «الفضل» إلى «مِصر»، وجد اضطرابًا فى أحوالها: ففى الوجه البحرى كانت ثورة أهل «جزيرة الحوف»، وفى الصَّعيد كان «دِحْية» الأُموى مايزال متشددًا. فما إن وصل «الفضل» إلى «مِصر» حتى جهز الجيوش لمقاتلة «دِحْية» وهزمه وأسره، ثم أتى به جيش «الفضل» إلى «الفسطاط» حيث قُتل. وأخذ «الفضل» يتباهى بما حققه من نصر، فيذكر المؤرخ «التَّغرى» أن «الفضل» كان يردد: «أنا أولى الناس بولاية (مِصر) لقيامى فى أمر (دِحْية) وهزيمته وقتله، وقد عجز عنه غيرى، وكاد أمره أن يتم لطول مدته ولاجتماع الناس عليه لولا قيامى فى أمره»، وعلى ما يُظن: أن كلماته تلك قد وصلت إلى الخليفة «الهادى» فعزله بعد ذلك بمدة قصيرة وولَّى بدلاً منه «على بن سليمان»، وهكذا كانت مدة حكمه على «مِصر» أقل من عام إذ عُزل فى أواخر عام ١٦٩هـ (٧٨٦م).
«على بن سليمان» (١٦٩-١٧١هـ) (٧٨٦-٧٨٧م)
هو «على بن سليمان بن على بن عبدالله بن العباس». يلَّقب بالأمير «أبى الحسن الهاشمى العباسى». تولى أمر «مِصر» من قِبل الخليفة «موسى الهادى» بعد عزله «الأفضل». وبعد بضعة شهور قليلة من قدومه إلى «مِصر»، وصله خبر وفاة الخليفة «الهادى» وتولى «هارون الرشيد» أمور الخلافة من بعد أخيه، وأنه أقره على حكم «مِصر». وكما ذكرنا سابقًا: فإنه هدَّم عددًا من الكنائس مع أن معاملته كانت طيبة للأقباط! كما ذكر عنه المؤرخون أنه كان كثير الصدقة فمال إليه الناس ما جعله يفكر فى أنه يصلح للخلافة، وطمع فى أخذها لنفسه فوصل الأمر إلى الخليفة «هارون الرشيد»- الذى كان تولى أمور الحكم آنذاك- فغضِب وعزله عام ١٧١هـ (٧٨٧م) ليكون قد تولى أمر «مِصر» قرابة العام وبضعة أشهر. و... وعن «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع