كلما شرعت فى الكتابة وفردت قلوعى استعداداً للإبحار جلست على الدفة أفكر وأتأمل وأوجه لنفسى سؤالاً لم يسلم منه كاتب: لماذا نكتب؟. وأعترف أمام قارئ أحترمه أنى أكتب لكى أتنفس دون الإصابة بإسفسكيا الاختناق، إذ لولا المرأة والبحر والكتابة لابتلعنا الموت من الجفاف، وأنا أصدق ابنة نزار قبانى حين قالت لى فى دبى: مات أبى حين توقف عن كتابة الشعر، كانت القصيدة تناديه ولكن جسده خذله!.
■ ■
الكتابة ليست عملية «رص كلمات» تزاحم بعضها البعض فوق السطور، وليست التخلص من حروف عالقة فى الزور أو أفكار تشكو الملل وتريد أن تنطلق إلى فضاء، الكتابة ليست تأدية واجب يتشابه مع العلاقة الزوجية الحميمة بعد ربع قرن!.
■ ■
الكتابة مهمة نبيلة ورسالة إذا كانت نابعة من قلم بضمير، هناك بعض الكتابات تبدو وكأنها «زوائد دودية» ويجب استئصالها، وكتابات أخرى لها خلود لأن كتابها صاغوا من الحروف أيقونات أعطاها التاريخ عمراً آخر، الكتابة من أشرف المهن إن لم تكن من أنبلها، والكتاب اثنان، كاتب تغلب عليه الذاتية فيحجب عن نفسه هموم المجتمع، وكاتب آخر معنىّ بهموم مجتمعه ويحاصر ذاتيته. إن المهموم بهموم عصره ينسج حبلاً من الكلمات يشنق به المسؤول إذا أخطأ وانحرف، أما المهموم بنفسه فهو يشنق نفسه حين تستبد به المصالح!.
■ ■
الكتابة ليست مهنة من لا مهنة له، فليس كل من ركب الحصان «خيال»، ولا كل من دبّج سطوراً «كاتب»، الكتابة تأهيل وممارسة ومخزون من الثقافة، وقد عرفت فى حياتى أصحاب أقلام أحببتها واحترمتها، أحببت الزخرفة الموزاييك فى أسلوب هيكل الفريد، وأحببت واقعية إحسان عبدالقدوس الذى تربى فى مدرسته عشرات الأقلام، أحببت مباشرة أحمد بهاء الدين وبساطته المذهلة، أحببت لغة مصطفى أمين فى السرد الممتع صباح كل يوم فى «فكرة»، وبهرنى أنيس منصور فى تأملاته الفلسفية فى مواقفه، ولا أنسى صلاح حافظ بسلاسة أسلوبه وجاذبية المعلومات.
الكتابة لغة وأسلوب، نزار قبانى مثلاً يعتبر ميلاد القصيدة نزيفاً للروح، وغادة السمان تشعر بأعراض الحمل الأدبى إذا زارتها فكرة رواية ولا تستريح حتى تلد!. السعدنى يكتب كما يتكلم ويتكلم كما يكتب، ومصطفى محمود يجلس مع قارئه وجهاً لوجه يحكى ويستطرد. ويوسف السباعى كان يقول أنا جناينى أقطف زهور الكلام للقارئ، وسناء البيسى تقتطع من لحمها ثمناً للصدق، ومها عبدالفتاح تكتب السياسة بأسلوب عاطفى، فلا يهرب منها قارئ، ونوال السعداوى مستعدة دائماً بشنطتها للسجن، وفاطمة ناعوت «عاملة قلق» فى المجتمع!.
■ الكتابة عذاب لمن احترفها و«دور كوتشينة» لمن لا يحترفها، لا حياد فى الكتابة مثلما كان يقول برنارد شو، إذ إن «الحياد موت للأشياء» والكتابات الأيديولوجية ليست سوى منشورات مدبجة، والكتابة الإبداعية تعتمد على القدرة على الصياغة وهى عالم ثان من إخراج الكلمات والحروف، والكاتب الذى تنقصه حلاوة الصياغة يرسب فى الامتحان عند القارئ وليس للراسب «دور تانى». إن نجيب محفوظ علم، أعطته نوبل تلك الأهمية العالمية، وقد يصدم يوسف القعيد إذا قلت له إن طاقة يحيى حقى الإبداعية قد تفوق محفوظ!. إن كل كاتب له محبوه ومريدوه، وأحياناً يزف النقاد قلماً ولا يمنحون آخر نفس المساحة من الاهتمام، فى زمانى كان جيل النقاد عظيماً: لويس عوض ومحمد مندور وعبدالقادر القط وشكرى عياد، وفى زماننا - اليوم - تقلص عدد النقاد وصار النقد انطباعياً ينقصه المضمون، ولكن قارئ النت تستهويه أشياء أخرى على الفيس بوك غير النقد الأدبى.
■ ■
لمن نكتب؟: لقارئ ينتظرنا؟، لقارئ مشتاق لكاتبه المفضل؟، لدولة تريد أن ترى نفسها فى مرايا صادقة؟، لرئيس دولة نفكر معه بصوت عال؟، لشباب يريد أن يفهم ما يجرى حوله؟.
■ ■
الكتابة هى فن العزف على أرغول الناس وإن لم يكن الناس موضوع الكاتب ومشروعه، فقد المصداقية وصار ترفاً لا قيمة له، الكاتب يدافع عن الناس أمام محكمة الرأى العام، فى لحظة ما عندما كنت أقدم برنامج حديث المدينة عشرين عاماً متواصلة أطلقوا علىّ «المدعى العام الشعبى» إذ كان الناس والمسؤول يلتقيان مواجهة فى الشارع فى أول توك شو.
إرضاء المسؤول هو آخر أمانى الكاتب/ الكاتب، ولست ممن يهاجمون المسؤول ابتغاء الشعبية الزائفة أو إرضاء الدولة على حساب الناس، الكتابة هى فن تحريك العقول والأفئدة فى الاتجاه الصحيح وإلا صارت مجرد ملء صفحات والسلام، والقارئ اللبيب يكتشف كاتباً هو فى الواقع ذراع للدولة يقف فى طابور المداحين والكورس.
إن اختفاء الكلمة المعارضة من شاشة اهتمامات الدولة وبالذات رغبات الناس واحتياجاتهم.. نذير شؤم، نعم، هناك كلمة تفوح بعطر الأمل، وكلمة تحبط وتقود إلى الاكتئاب.
■ ■
لا أظن أن الصحافة الورقية قد تنحسر أو تحتجب، ففى أعتى بلاد الدنيا تقدماً تكنولوجياً مازالت الصحف الورقية بين أيدى الناس فى المترو والقطارات، ربما كانت الحسنة الوحيدة للنت أن من يقرأ ما أكتبه، يشتبك معى فى الحال معجباً أو رافضاً، وأنت كقارئ تتابع كاتباً لأنه «يختار موضوعه» ولأنه «له أسلوب» ولأنه «ذو كاريزما» ولأنه «يتفاعل» معه، ما عاد الكاتب فى انتظار خطابات المعجبين ينقلها البوسطجى بعد حين. صار الإعجاب بالمقال إعجاباً أو رفضاً فى التو واللحظة تماماً مثل ممثل المسرح الذى ينال التصفيق فى الحال، ومازلت أحب الكتاب الورقى وأشم صفحاته ورائحة حبر المطابع ولا أميل للكتاب الإلكترونى مهما كانت السهولة فى الاستماع للصوت فى حالة استرخاء، أنا لا أستقبل كتاباً وأنا مسترخ!.
■ ■
الكتابة هى الغناء بطعم الشجن فوق الورق، وأنا مازلت أكتب بالأقلام على ورق أبيض وليس «مسطر» كما كان يكتب مصطفى أمين، أقرأ لهفة الأوراق على احتضان الكلمات، والقلم بين أصابعى «يأتمر» بأمرى، ولكنه فى بعض الأحيان «يعتصم» ويرفض الكتابة، هل هو الموضوع الذى أتعرض له دفعه للاعتصام؟ ربما!. أنا كاتب محترف بطعم الهواة، عشقت الكتابة صبياً وأصدرت أول جريدة حائط فى مدرسة بنى سويف الثانوية، ثم عشت مشواراً من العناء حتى التقطنى حسن فؤاد من ليالى كامل الشناوى، كان هناك «كشافين» عظام يشمون رائحة المواهب ويمنحون الفرص لاختبار حجم الموهبة.
■ ■
الكلمة لها فعل السحر، كلمة تبنى وكله «تهد»، كلمة ترفع الروح المعنوية وكلمة تهبط إلى سابع أرض بك، الكلمة «الأمل» تمتص كل الإحباطات وتبنى الحلم وتشارك فيه، والكلمة المحبطة سموم تدخل جسد المجتمع، عندما يقرأ الناس على الشاشات عبارة «استغاثات دون جدوى» يفقدون الأمل فى الإصلاح والخروج من مطبات اليأس، الكلمة الأمل هى ما تحتاجها مصر الآن، والآن وليس غداً، هناك عبارة نسبت لسعد زغلول وهى «مفيش فايدة»، إنها أسخف عبارة محبطة ولا أدرى مدى صحتها وربما ألجأ إلى العزيزين عبدالرحمن فهمى أو عباس الطرابيلى لأعرف مدى صدق هذه العبارة وفى أى الظروف قيلت ولماذا يلوكها الناس؟!
■ ■
الكتابة دون جدوى كالحرث فى الماء، والكتابة بهدف محدد وبحرفية هى فن التبصير بالغد، نحن شعب لا يرى سوى تحت قدميه فقط، لا يتطلع للغد ولا تهمه المستقبليات، نحن شعب شعاره «احيينى النهارده وموتنى بكرة» فعندما يقال له إن مشروعات مصر العملاقة سوف يُستفاد منها 2018، هز كتفيه وردد العبارة!!.
■ ■
هناك حاكم يقرأ ما يكتب فى الصحف بنفسه لا من خلال تقارير، هناك حاكم تتكوم الصحف بجوار سريره دون قراءة.
هناك حاكم يعتمد على التليفزيون فى قياس حجم السخط فى المجتمع قبل تقارير الأمن الوطنى.
هناك حاكم يتصل بالكاتب إذا أعجبه طرحه لموضوع ما، نحن شعوب «ترى» أكثر مما «تقرأ» ولهذا تحاول أن تعصف بعقولنا الميليشيات الإلكترونية محبوكة الكذب إلى درجة التصديق، وكلما بادرت الدولة بالتصحيح اطمأن الناس للصورة.
■ ■
تقديرى أن «الصبر» مضمون مصرى وأن نبات الصبار الذى يشى بالصبر، ينمو فى تجويفات جبال مصرية منذ الأزل، وبالصبر تقفز مصر فوق كبواتها، اقتصادية كانت أو سياسية، وفى جينات هذا البلد، جين «القوة الداخلية» فيستعصى على الانكسار.
نقلا عن المصري اليوم