هناك روايات يظلمها اختزالها وحصرها فى مجرد حل ألغاز علاقتها بشخصيات حقيقية موجودة فى الواقع، رواية «السمسار» من ضمن هذه الأعمال الفنية التى لا تستطيع أن تفلت من فخ ولذة وإغراء التمارين العقلية والاستنباطات الروائية والنميمة السياسية الصالونية!، تلك التمارين والاستنباطات التى تجعل القارئ يقول هذا هو حسين سالم وذاك هو أبوغزالة، أما هذا السطر، فيعبر عن كمال حسن على وهذا الفصل عن سكرتير مبارك.. إلخ، وبالطبع يساعد على هذه القراءة التى تترجم الشخصيات فورياً من اللغة الروائية الإيحائية إلى اللغة الإخبارية التصريحية كون المؤلف يمت بصلة قرابة لرجل الأعمال حسين سالم، بل وعمل معه فترة، المؤلف عمرو كمال حمودة لديه مشروع روائى ونفس قصصى ولغة مقتصدة تلغرافية وإيقاع إبداعى لاهث، ولذلك أرجو ألا نحبسه ونختصره فى خانة الحكّاء السياسى الذى يستخدم الرواية جسراً لحكاياته، أو تحوله لباباراتزى أو مصور صحف نميمة، لأنه بالفعل يكتب رواية ولا يحاسب إلا بمقاييس فن الرواية، الحكاية عن السمسار منتصر فهمى الذى انتصر وفهم، ضبط موجته على موجة هذا العصر، فانفتحت له ممالك الدنيا وحصل على كلمة سر كنوز ومغارة على بابا، مفتاحان فتح بهما كل الأبواب المغلقة وعقد من خلالهما كل الصفقات السرية، البارمان والإمبريزاريو، الخمر وسحرها والنساء ومتعتهن، الأول خبير يسكر، والثانى قواد يسحر، كان معلم السمسار الأول هو فوشيه أكبر ندل فى التاريخ والذى دمر مدينة ليون وأحرقها باسم الثورة الفرنسية ولعب على كل الحبال بقلب بارد حتى لقّبوه بالحرباء، دستوره كان كتاب ستيفان زفايج عن هذا السفاح الفرنسى، لخص نجاح السمسار بقوله «السمسار الشاطر اللى يخلى البايع والمشترى يدوروا عليه قبل الصفقة ويتقابلوا عنده ويفضلوا مشدودين إليه فى أثناء الصفقة»،
من المنسوجات إلى تجارة السلاح إلى النقل البحرى، كان دينه وكانت عقيدته المال والسيطرة على جثة أى قيمة أو مبدأ، كل شىء فى الحياة كان ممراً أو جسراً لتحقيق هذا الهدف، حتى أسرته هى مجرد تكملة للصورة الاجتماعية التى يستطيع التسلل بها ومن خلالها إلى بلاط الكبار، تحتار مع السمسار وخاصة علاقاته النسائية هل هو بلا مشاعر وبلا قلب، أم أنه يبحث عن نموذج حبيبة افتقدها على ساحات أجساد الفاتنات من كل جنس ولون؟!، من الزوجة التى كانت بمثابة الفخ الوحيد الذى استطاع شخص أن يوقعه فيه إلى الممثلة إلى باحثة الدكتوراه إلى غانيات وعاهرات الغرب والشرق، كل تاء تأنيث قابلها تحتار هل هى صفقة أم تعويض حرمان طفل مات أبوه شاباً بالتيفود وحرمت أمه من ميراثها المستحق، تفاصيل الشخصية ثرية جداً، المدنى الشيك مجيد اللغات الذى يعمل فى المخابرات، يمتلك راداراً حاد الدقة فى قراءة البشر، فلسفته أن كل من هو موجود على ظهر هذه الأرض له مدخل ومفتاح ونقطة ضعف، ولا أحد مستعصٍ على الرشوة، سواء كانت خمراً صهباء أو ليلة حمراء!!، الرواية بها تفاصيل مثيرة صادمة عن صفقات الحيتان والديناصورات وشبكة المصالح والعلاقات الجهنمية التى تتحكم فى مصائر دول وشعوب، بداية من دول تبحث عنها فى الخريطة بميكرسكوب، وانتهاء بالدول التى تسيطر على العالم وتبتلعه وتتحكم فيه من خلف الستار، نوعية السمسار منتصر من النمط الكوزموبوليتانى الكونى، مثله مثل الشركات متعددة الجنسيات، ليس سمسار الكشك أو مكتب العقارات، ولكنه سمسار مسرح العرائس الذى يحرك الماريونيت بخيوط غير مرئية، الرواية لها عدة مستويات وتمتلك أكثر من شاطئ للرسو عليه فنياً، عليك أن تختار أن تسبح فى مياهها الروائية الإقليمية أو أن تتجاوز وتتخطى المسوح به دولياً، لكن فى كل الأحوال عليك أن تتعامل معها مبدئياً كرواية تستحق عناء القراءة والتحليل.
نقلا عن الوطن