الأقباط متحدون - بنت الشاطئ
أخر تحديث ٠٠:٣٤ | الجمعة ١٠ ديسمبر ٢٠١٠ | ١ كيهك ١٧٢٧ ش | العدد ٢٢٣٢ السنة السادسة
إغلاق تصغير

بنت الشاطئ


بقلم: هند مختار
شخصية اليوم شخصية مميزة جدًا، دفعني للكتابة عنها بنات اليوم، فالفتيات الآن قدوتهن مطربات الفيديو كليب، كارهات للتعليم يذهبن للجامعة أو العمل حتى يراهن الرجال فتجد العريس، لا ثقافة ولا رغبة في التعليم، وجميعهن أقصى أمالهن أن يتزوجن ويجلسن في البيت..
لذلك آثرت أن تكون شخصية اليوم شخصية قدوة لكل الفتيات المصريات، شخصية وجد في حياتها العلم بأرفع مستوياته حتى وصل بصاحبته إلى كرسي الأستاذية، ولم يقف العلم حائلاً بينها وبين الحب والحياة، بل عاشت أعظم قصة حب مع زوجها والذي كان أستاذها ذات يوم الدكتور "أمين الخولي" وأنجبت وكانت أمًا،كانت نموذجًا للكمال في المرأة، كافحت من أجل التعليم ولم تهرب منه، لم تحد عن طريقها فحققت النجاح..

نشأتها
ولدت "عائشة محمد عبد الرحمن" -وكما جاء في مذكراتها الشخصية (على الجسر)- يوم السادس من نوفمبر سنة 1913بمدينة "دمياط" حيث يلتقي النيل والبحر..
وعلى الرغم من أنها مولودة في مدينة "دمياط" وعاشت فيها طفولتها ومراهقتها، إلا أن والدها أساسًا من قرية شبرا باخوم بمحافظة المنوفية، وأنه بعد أن أتم تعليمه عين مدرسًا بمدرسة دمياط الأميرية للبنين وتزوج من والدة عائة "عبد الرحمن" حفيدة الشيخ "الدمهوجي" شيخ الجامع الأزهر السابق..
كان والدها على عادة الناس -قديمًا وحديثًا- يتمنى أن ينجب ولدًا حتى يرث منه علوم الدين، ولكن يشاء الله أن تنجب زوجته بنتًا، ثم بعد ذلك تنجب بنتًا أخرى فتكون هي "عائشة" والتي أسماها بهذا الاسم تيمنًا بالسيدة عائشة أم المؤمنين، وكان يناديها بأم الخير، وقرر أن يهبها للعلم..
ومنذ طفولتها لقنها والدها مبادئ القراءة والكتابة، وكالعادة يلقنها قصار السور، ولكن تعليمها بشكل منتظم لم يبدأ إلا في عام 1918، حيث اعتادت الأسرة قضاء الصيف في قرية الأب بشبرا باخوم، ومن هناك ذهبت عائشة إلى الكُتّاب وكان "كتاب الشيخ المرسي"..
بعد العودة بدأ الأب في تعليمها المبادئ الأولية لعلوم العربية والإسلام، وكانت تتلقى العلوم في معهد دمياط..
تقول هي في سيرتها الذاتية ما معناه أنها في البداية على الرغم من زهوها بالتعليم إلا أنها كانت تكره القيود الصارمة التي كان يفرضها عليها الأب لتلقي العلوم وحفظها، حتى ألفت بعد ذلك تلك القيود الصارمة الخاصة بالتعلم، وانكبت بكل جوارحها على تحصيل العلوم..

معاناتها للتعلم
يسأل الجميع أين معاناتها في حصولها على التعليم؟! وأجيب: بدأت معانتها منذ سنة 1920 حينما عادت من قريتها في المنوفية إلى دمياط تنتظر صديقاتها على شاطئ النهر ليلعبن معًا، لكن لم يأت منهن أحدًا، وحينما سألت عنهن فوجئت أنهن قد انتظمن في مدرسة اللوزي الأميرية للبنات..
ولقد قمن بعرض أزيائهن الأنيقة عليها، وكتبهن وأدواتهن المدرسية، وعادت إلى المنزل ساهمة، ولما لاحظ والدها أنها لا تلقي بالاً لما تسمع سألها عن حالها، فأجابنه بأنها متشوقة للذهاب إلى المدرسة.. وكأنها نطقت كفرًا على حد قولها وكان رد الأب حازمًا حاسمًا.
((ليس لبنات المشايخ والعلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة وإنما يتعلمن في بيوتهن))
وزهدت عائشة في الدنيا وهي ترى الفتيات وهن يذهبن إلى المدرسة وهي لا، حتى فزعت أمها من ذبولها، وذهبت إلى الشيخ الدمهوجي جدها -وهو جد والدتها- حتى تستشيره في موقفها بين حبها لابنتها ورغبتها في ألا تخالف زوجها..
وتدخل الجد عند الوالد، واستطاع أن ينزع منه الموافقة ولكن بثلاثة شروط..
الأول؛ ألا دخل له مطلقًا بأي طلب التحاق أو تقديم أو إجراء يتصل بالمدرسة من قريب أو بعيد.
الثاني؛ أن تتابع دراستها الدينية في البيت دون أي تهاون أو تقصير.
الثالث؛ أن تنقطع تمامًا عن المدرسة بمجرد وصولها لسن البلوغ..
التحقت بالمدرسة بعد جهد كبيرمن جدها، الذي قدم أوراقها باعتباره ولي أمرها، وكان هذا في أواخر العام الدراسي، وجلست بعد دخولها المدرسة بفترة بسيطة تؤدي امتحان الانتقال إلى الصف الثاني، وأدت الامتحان في أقل من ثلث الوقت، وكان السبب في هذا تعليمها السابق على يد والدها..

الرحلة
كانت تلك المرحلة هي بداية رحلة شاقة جدًا..
بعد أن أتمت دراستها في المدرسة الأولية، تمنت الطفلة عائشة أن تذهب للمدرسة الراقية، ولكن هيهات فقد رفض والدها كل الواسطات لكي يلحقها بالمدرسة الراقية، وفي يوم كان جدها لوالدتها قد دخل في جدال مع والدها حول موضوع المدرسة الأولية، وخرج من عنده غاضبًا فاصطدم بدابة، وأصابه الحادث بكسر في الحوض أقعده حتى آخر العمر، ورق الأب للشيخ الكسيح، وتخلى عن ابنته لتقوم على خدمة الجد الكسيح، والذي بعث بالطفلة عائشة للمدرسة، وقد سكت الأب على مضض نتيجة شعوره بالذنب..
وفي تلك المرحلة اتصلت الفتاة عائشة بالصحافة، فقد كان جدها يراسل كبريات الصحف كالأهرام والمقطم، وكانت من ترسل له تلك الخطابات، وتقرأ له الصحف هي عائشة عبد الرحمن..
أتمت التعليم في المدرسة الراقية وقد بلغت الثالثة عشر من عمرها، وبدا أن الطريق أمامها مسدودًا، فقد بلغت سن البلوغ ويجب حجبها في المنزل، بالإضافة أنه لايوجد في دمياط آنذاك أي نوع تعليم آخر أرقى من ذلك للفتيات، وأقرب مدرسة هي مدرسة المعلمات في المنصورة، وكان لها امتحان للتقديم، وجاء وقت الامتحان بها أثناء تغيب والدها في زيارة الموالد وأولياء الله الصالحين، وزيارة شيخ الطريقة المحبب للأب الشيخ "منصور أبو هيكل الشرقاوي"، والذي سيلعب دورًا هامًا بعد ذلك في حياة عائشة عبد الرحمن..
وذهبت عائشة وأمها وتركتها تؤدي الإمتحان في مدرسة المعلمات، ونجحت في عائشة بتفوق، وعادت الفتاة لمنزلها ولم يعلم الأب شيئًا..
انتظرت الفتاة أن ترسل لها المدرسة، ولما تأخرت في إعلامها بموعد الدراسة أجابتها المدرسة أن والدها قد سحب أوراقها من المدرسة، بدون أن يخبر أحد..
أضربت عائشة عن الطعام (من أجل العلم) وخاف عليها الجميع مما أصابها من هزال، وتكاثر الأهل والزملاء ولم يتركوه حتى وعد بأن يرسل خطابًا للمدرسة، وبالفعل قد فعل، ولكنه بعث داخل الخطاب بورقة فارغة..
بعد شهرين من  بدء الدراسة استطاعت الأم أن تأخذ لها الإذن بالتعليم ممن لا يستطيع الأب معه رفضًا، وهو الشيخ "منصور أبو هيكل الشرقاوي"..
سافرت مع الأم إلى المنصورة للالتحاق بالمدرسة، ولكن المدرسة رفضت لأن العام الدراسي قد بدأ ولا يوجد مكان لطالبات أخريات، ولكن الناظرة الحكيمة أخبرتهما أن هناك مدرسة أخرى للمعلمات فتحت بحلوان، وبعثت معهم خطابًا بأن عائشة قد نجحت في الامتحان بتفوق..
وخرجت الأم وإبنها من المدرسة، وذهبت الأم العظيمة لأحد تجار الذهب حيث باعت سوارها الذهبي، وأخذت عائشة وذهبت بها إلى القاهرة..
ونزلت عائشة عند خالها بحي زين العابدين، وأخذها الخال لمدرسة حلوان، حيث فوجئوا أن المدرسة لن تبدأ التعليم في هذا العام إلا بفصول الفرقة الأولى، وقرأت الناظرة جواب ناظرة المنصورة، وعرضت عليهم أن تتنازل عائشة عن حقها في أداء امتحان الفرقة الثانية، وأن تنضم للفرقة الأولى، وقد وافقت، وقد أذنت تلك الناظرة الرائعة -والتي للأسف لم أستطع الحصول على اسمها- لعائشة أن تقيم في المدرسة مدة الأسبوعين المتبقيين على بدء الدراسة..
ولكن بعد شهرين من الدراسة رفضت وزارة المعارف أن تعتمد عائشة في الصف الأول، وهي التي نجحت في الإمتحان وقبلت في الصف الثاني، فاستضافتها الناظرة في المدرسة حتى بحثت لها عن مدرسة تقبلها، وكانت معلمات طنطا، ولكن لن تقبل إلا بعد الكشف الطبي..
ولقد رسبت في كشف النظر، وكان عمها قد عين في القاهرة، وبعد رسوبها ذهب بها لطبيب عيون ووصف لها نظارة طبية، ولكن الطبيبة الإنجليزية التي وقعت الكشف أول مرة مس "جارفس" رفضت أن تعيده لها، ولكن عمها استطاع بعد أن لف على كل مكاتب الوزارة أن يعيده، وأن تنجح فيه وذهبت لطنطا..
بعد أن انتقلت للسنة الثالثة توفي جدها، وصمم والدها على حجزها بالمنزل، وأصيبت بانهيار عصبي شديد أدى إلى عدم ذهابها للمدرسة وشطبت منها، وارتاح الأب لهذا، ولكن عائشة تقدمت للامتحان من وراء أبيها بعدما شفيت، عن طريق المنازل وجاءت الأولى على المدرسة..
وأثناء أدائها للامتحان الشفهي وتفوقها فيه بجدارة سألها الممتحنون عما ستفعله بعد ذلك، فكانت إجابتها أنها تأمل أن تتم دراستها بالقسم الإضافي لمعلمات بولاق..
ولكن الممتحنون لفتوا نظرها أنها ممكن أن تذهب للجامعة المصرية، والتي لم تخطر في بالها، ولكنها في حاجة لتعلم الإنجليزية والفرنسية..

عائشة المعلمة
بعد أن أنهت تعليمها قررت أن تعمل، بالطبع كاد الأب أن يرفض، ولكن أقنعه البعض بترك عائشة تعمل في التدريس، لأنها سوف تمل وتزهد في العمل من تلقاء نفسها، لأن المرأة غير قادرة على هذا، وذهبت إلى مدرسة البنات في طنطا للبعد عن جو منزلها المشحون، وظلت تُدرس للفتيات، وتدرس مناهج القسم الإضافي فإذا أصابها الملل اتجهت للقراءة، وحينما بعثت للقسم الإضافي طالبة أداء الامتحان أبلغوها بالرفض، لأنه لا يتقدم له أحد من المنزل..
حاولت الشابة بكل الطرق أن تتقدم للامتحان ولكنها فشلت، فكان من رأي أحد الموظفين أن تحصل على الابتدائية، ولم يدع لها عمها أو الموظف فرصة للتفكير، وقدما لها، وكانت في حيرة كيف تمتحن وهي لا تعرف الانجليزية، وكان الحل أن تقدم شهادة مرضية لتأجل الامتحان للدور الثاني تكون قد حصلت فيه المنهج، وانتقلت من المنصورة إلى بيت عمها في شارع الخليج المصري، وانتقلت مدرسة في مدرسة الفتيات الأولية بالسيدة زينب..
جاء امتحان اللغة الإنجليزية، وكان المفروض أن تكتب موضوعًا عن كيف نجا السندباد من الأفعى، وتعثرت عند كلمة "نسر"، ورمت الفلم على ورقة الإجابة يائسة، ولكن لأن لكل مجتهد نصيب، ترى عائشة كلمة "نسر" أمامها على القلم الرصاص، حيث كان هذا هو اسم نوع القلم..
نجحت وتوجهت إلى امتحان الثانوية العامة وقد أخذتها، ثم أشفق عليها أحد العاملين بالوزارة مما تعانيه من مشقة، فأمر بنقلها إلى وظيفة كاتبة بكلية بناة الجيزة، ويوصي ناظرتها السويدية مدام "برج" بتعليمها اللغتين الإنجليزية والفرنسية..

في الصحافة
انضمت لأسرة الأهرام سنة 1935، بعد أن قابلت "جبرائيل تكلا" بك صاحب الجريدة والذي ضمها لأسرة الجريدة بتوصية من "أنطوان الجميل"..
بعد ذلك التحقت بكلية الأداب في عام 1935 أيضًا، لتقابل الدكتور "أمين الخولي" وتتزوجه وتنجب منه "أكرم" و"أمينة" واللذان توفيا في حياتها..
ولتكتب قصة عشقها له في كتاب "على الجسر" وهو سيرة ذاتية لها...
الدكتورة "بنت الشاطئ" أول إمرأة تفسر القرآن الكريم، وكتبت الكثير من الكتب والتراجم والسير، واستمرت تُدرس في جامعة القرويين بالغرب لمدة عشرين عامًا.
حصلت الدكتورة عائشة على الكثير من الجوائز؛ منها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب في مصر عام 1978م، وجائزة الحكومة المصرية في الدراسات الاجتماعية، والريف المصري عام 1956م، ووسام الكفاءة الفكرية من المملكة المغربية، وجائزة الأدب من الكويت عام 1988م، وفازت أيضًا بجائزة الملك فيصل للأدب العربي، مناصفة مع الدكتورة وداد القاضي عام 1994م. كما منحتها العديد من المؤسسات الإسلامية عضوية لم تمنحها لغيرها من النساء، مثل مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، والمجالس القومية المتخصصة، وأيضًا اُطلق اسمها على الكثير من المدارس وقاعات المحاضرات في العديد من الدول العربية.
كانت تكتب باسم مستعار وهو "بنت الشاطئ" حتى لا يتعرف والدها عليها، وتوفيت في 1 ديسمبر سنة 1998، وقد أقامت الحكومة المغربية صوانًا لتقبل العزاء فيها، عرفانًا وتقديرًا لها.
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter