وبعد أن أرهقنا أنفسنا تأنيباً لتجاهلنا لما كان من وقائع تاريخية وأحكام قضائية هى عنوان الحقيقة ونصوص مواد قانونية من المفترض -كده وكده- أنها ملزمة حتماً، نأتى إلى ما نحن فيه فنتابع مسار الملف القبطى فى مواقف رؤساء مصر ما بعد يوليو 1952.
وأتذكر حواراً مع لطفى واكد قال فيه إنه عندما كان أحد مديرى مكتب عبدالناصر كلفه بملف الأقباط وأمره بضرورة الموافقة الفورية على إصدار قرارات جمهورية بإنشاء وإصلاح أو ترميم كنائس. وسألته ولماذا لم يصدر قانوناً لبناء دور العبادة، فقال: ربما لأن الأمر لم يطرح من جانب الأقباط وربما لأن الأقباط كانوا شديدى الامتنان للعلاقة الوثيقة بين عبدالناصر والبابا كيرلس ولاهتمامه بمشروع بناء الكاتدرائية الجديدة فى الأنبا رويس.
وعندما جاء السادات ومعه شعار «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، وتحالف مع قوى التأسلم ليضرب بها قوى اليسار وكانت تصادمات الزاوية الحمراء وتشكيل البرلمان للجنة برئاسة جمال العطيفى التى أصدرت تقريراً حاول أن يحل أزمة بناء الكنائس، تناساه السادات ولم يلتفت إليه أحد. ويروى لى د. رشدى سعيد -وكان عضواً بالبرلمان- أن السادات استدعاه فى تلك الأيام وسأله «ح نعمل إيه فى قرايبك الأقباط؟»، فرد قائلاً: «احرقهم بجاز». فقال السادات مندهشاً: «أحرق كام مليون.. انت اتجننت؟»، وأجابه «يا تحرقهم يا تستجيب لمطالبهم». وغضب السادات لكنه حل المشكلة بطريقته الخاصة. ويروى لى المهندس حسب الله الكفراوى أنه فى تلك الأيام التهبت الحملات الدولية بزعم الدفاع عن المسيحيين واتصل به السادات فى المساء وقال له «تروح فوراً للعاشر من رمضان وتعمل حجر أساس لكنيسة قريبة من الجامع». وفى الصباح زار الصحفيون الموقع، ولعلهم صدقوا.. أما حجر الأساس فقد بقى إلى أن نسية الناس وأزيل.
وفى زمن «مبارك»، وكنت شاهداً مباشراً على ما كان فقد تحولت رغم أنفى إلى وسيط بين الرئيس والبابا شنودة، فالبابا كان يرفض من حيث المبدأ مكالمة مبارك. وأذكر لـ«مبارك» أنه بعد سلسلة من التداعيات، خاصة إصرار بعض أساتذة كلية الطب على اعتبار 7 يناير يوم امتحان، قرر اعتبار 7 يناير إجازة رسمية. واتصل بى د. زكريا عزمى قائلاً: بلغ البابا أن القرار سيصدر سريعاً باعتبار 7 يناير إجازة رسمية وقد يعتبر عيد القيامة أيضاً إجازة. واتصلت تليفونياً بالبابا الذى استقبل الخبر بسعادة، لكنه قال أرجو ألا يصدر قرار بعيد القيامة لأنه محل خلاف دينى مع الإخوة المسلمين. وأبلغت زكريا عزمى فقال «يا نهار أبيض؛ إحنا مكناش واخدين بالنا». لكن مبارك راوغ طويلاً فى إصدار قانون دور العبادة. وإن كان يسعى لإصلاح أى خلل جسيم دون حل جذرى لمشكلة بناء الكنائس، فعندما أبلغت زكريا عزمى باستغاثة الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة من قيام رئيس الحى بهدم مبنى خدمة ملاصق للكنيسة كان القرار يعاد المبنى إلى أصله على نفقة المحافظة (وهو ما يتكرر اليوم)، لكن المعوقات كانت أحياناً تأتى من بيروقراطية أو تعصب أجهزة الداخلية والمحليات.
وأذكر أن البابا أشتكى من قرار تعثر لإنشاء كنيسة فى قرية موط بالوادى الجديد وكان ذلك فى زمن يسعى فيه مبارك إلى حلول وسط فقط تهدف لإطفاء غضب الكنيسة فأطلعنى زكريا عزمى على طلب كنيسة موط وعليه توقيع مبارك مع عبارة «لا مانع» وبعد بحث اتضح أن مدير أمن الوادى الجديد لم ينفذ التأشيرة الرئاسية بحجة أن الكنيسة لم تقدم عقداً مسجلاً يفيد ملكية أرض تخص الأقباط هناك منذ مئات السنين.. وبالتليفون تم حل الموضوع. وفى الكشح تملص المتهمون ومعهم الأمن وربما الحكم من صدور أحكام مستحقة بحجة وصفها مبارك فى حديث تليفونى أبلغته فيه أن قداسة البابا قال غاضباً أبلغه أن «دم الأقباط مش مية». فقال مبارك «أصل المحاضر بايظة» (إنها نفس الحيلة الأمنية التى تتكرر حتى اليوم).. كذلك عيّن مبارك ولأول مرة محافظاً مسيحياً، لكنه لم يقبل ترشيح الكنيسة بحجة أن المرشح اسمه «أكلمنديس». وهكذا يظل مبارك ممسكاً بالعصا من منتصفها. لكن الملاحظ أن الرئيس وقداسة البابا كان كل منهما حريصاً على ألا يتصل تليفونياً بالآخر، وهى سياسة متبادلة فكان الأمر بحاجة إلى وسيط دوماً.
وفيما بعد تنحى مبارك فتح المجلس العسكرى ملف قانون دور العبادة الموحد وتولى -فيما أعتقد- الفريق سامى عنان هذا الموضوع الذى أوكل الأمر إلى القانونى الشهير صاحب الميول الإخوانية، وفى اجتماع دعا له الفريق مع رؤساء بعض الأحزاب لمناقشة هل الدستور أولاً أو انتخاب الرئيس أولاً. أثرت الموضوع وقلت «إن القانونى الماكر الذى أعد مشروع قانون دور العبادة الموحد صاغه بحيث يرفضه المسلمون والمسيحيون معاً فيبقى الحال على ما هو عليه». وضحك الفريق ولم ينفِ ذلك.
ولقد تركز الحديث على موضوع الكنائس بينما هناك قضايا أخرى موجعة لأى ضمير مصرى ومخالفة لصريح الدستور مثل التوظيف فى مواقع محددة ومثل برامج التعليم المتخمة بالتعصب، ونسب القبول المحدودة جداً فى بعض الكليات، ومسألة خلو أجهزة مهمة من أى قبطى، وقضايا أخرى مخالفة لمصرية المصريين بما يؤكد أن المسألة ليست فقط دار عبادة إنما هى التمييز الطائفى فى عديد من المواقف. وبلغ الأمر أن عديداً من النواب الحاليين «تمطعوا» بحجة مساندة المسيحيين فقرروا -وياللعظمة- أن يصدر قرار بناء الكنائس وترميمها من المحافظ. ونسى النواب المساواة، والقانون الموحد، والحقوق المهدرة وأن المقصود بالقانون الموحد هو وحدة الشروط ووحدة المحاذير وليس قانوناً يميز بين دار عبادة وأخرى.
وأعود لأقول إن أحوال ملة النصارى تحتاج إلى حل شامل كامل عاجل يمحو كل مظاهر ومكامن التمييز وهو أمر منوط بالرئيس السيسى وحده، فهو وحده الذى يستطيع. وهو الذى يتحتم عليه أن يفعل لنغلق إلى الأبد ملفاً مرير المذاق ويفتح علينا باب التدخل الأجنبى وباب الارتزاق والتسول من تنظيمات تزعم أنها تدافع عن حقوق الأقباط بينما هى تبيع نفسها وضمائرها فى سوق النخاسة.
وأتمنى مخلصاً أن يحل الموضوع حلاً نهائياً وألا أعود أليه مرة أخرى.
نقلا عن الوطن