تكشف معركة الخطبة المكتوبة بين كل من وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر عن حالة التصحر العقلى التى أصابت القائمين على رأس العديد من المؤسسات الرسمية. فالأوقاف تتمسك بالخطبة المكتوبة التى يتحول معها الخطيب إلى مجرد «ريكوردر»، والأزهر يرفض، من منطلق ولايته الأصيلة على المنابر. النزاع شكلى فى جوهره، ولا يتجاوز لعبة التنافس على الأدوار، وهو فى كل الأحوال فارغ من المضمون، بعيد عن المهمة الأكبر المنوطة بالمؤسستين فى تجديد الخطاب الدينى. وأخشى أن أقول إن السجال الحادث فى هذا السياق يدلل إلى حد كبير على أن الطرفين لا يصلحان للقيام بهكذا مهمة.
الخناقة -كما ذكرت لك من عدة أيام- على سنّة، لأن صلاة الجمعة فرض وخطبتها سنّة، وهى فى جانب منها معركة على بدعة لأن الأصل فى الجمعة أن تسبق الصلاة الخطبة، ونحن نفعل العكس. ولست أريد من المسئولين فى كل من الأزهر والأوقاف أكثر من أن يسألوا أنفسهم: هل دافع كل طرف منهما من وراء هذه المعركة مرضاة الله ورسوله أم ثمة أهداف أخرى؟ أجدنى من متابعة تفاعلات هذا الصراع ميالاً إلى الظن -وليس كل الظن إثم- بأن ثمة أهدافاً أخرى تكمن وراءها. وزير الأوقاف رجل يبدو من كلامه الحرص على مرضاة الدولة، حتى ولو كانت وسيلته إلى ذلك الخطبة «الدليفرى»، فالمنابر لا تؤمَن، وألسنة الخطباء كثيراً ما تزلف يميناً وشمالاً، بشكل قد يؤدى إلى إحداث مشاكل. وزير الأوقاف رأى أن الحل سهل وبسيط يتمثل فى «الخطبة الدليفرى» التى ترددها كل الألسنة، فى نفس الوقت وفى كل المساجد، ولأنه لجأ إلى هذه الوسيلة تجنباً لأى اشتباكات منبرية مع السلطة، فمن الطبيعى جداً أن يتم طهو الخطبة كل جمعة فى مطبخه الرسمى. والسؤال: هل الخطبة المكتوبة التى ستأتى على هذا النحو يمكن أن تسهم فى تجديد الخطاب الدينى؟!
ننتقل إلى الأزهر الذى تبنى موقفاً رافضاً للخطبة «الدليفرى»، وتبنى ما يمكن وصفه بـ«الخطبة المطبوخة»، ليس لأسباب دينية أو فقهية، ولكن لأسباب أخرى تتعلق بإحساس المسئولين عنه بأنه المؤسسة المهيمنة على ما عداها من المؤسسات الدينية الرسمية، وكمحاولة لمحاربة إحساس آخر بدأ يتسرب إليهم بأن الأزهر يتم تهميشه لحساب مؤسسات أخرى. ولا يخفى على أحد أن السلطة لديها العديد من التحفظات على أداء الأزهر، وتتوقع منه دوراً أكثر حيوية فى محاربة الفكر المتطرف، ونشر ثقافة الاعتدال. كل من يتحدث عن تجديد الخطاب الدينى يضع عينه على الأزهر، وهو أمر طبيعى، فالأزهر هو الأولى بمهمة الإصلاح الدينى، فعند الأزهر العلة، وعنده أيضاً الدواء إذا انشغل القائمون عليه بما يجب أن ينشغلوا به من تنظيف التراث الإسلامى مما علق به من شوائب وما أكثرها، ولدى الأزهر جيوش من الطلاب والخريجين يفوقون فى أعدادهم أعداد الناشطين فى نشر الفكر المتطرف، لكنهم لا يتحركون ولا يقومون بدورهم فى نشر الوعى الدينى السليم، لأن القيادات مشغولة بمعارك جانبية، ومن بينها معركة الخطبة.. وهل تكون مطبوخة ولا دليفرى؟!.
نقلا عن الوطن