يوليو و يونيو .. طريقان مختلفان ينتهيان بالإفقار.
محمد حسين يونس
كلما زاد مستوى البؤس و الحاجة بين المصريين في زمن حكم ضباط ( يناير/ يونيو ) ..إرتفعت عند البعض هامات ضباط ( يوليو / مارس ) حتي قاربت أن تصل إلي عنان السماوات العليا .. و وضعت هالات الفخار والانتصار للفقراء حول راس صاحب ( حرية إشتراكية وحدة )..وزملاء له كانوا يسمون أنفسهم الضباط الاحرار
فضباط جيش الملك فاروق الذين إنقلبوا عليه في بداية الستينيات من القرن العشرين كانوا خلطة تختلف تماما عن هؤلاء الذى إنقلبوا علي الاخوان في منتصف العقد الثاني من القرن الحادى و العشرين .. الاوائل كانوا من صغار الضباط القادمين من طبقات إجتماعية مختلفة بعدأن فتحت حكومة الوفد الباب لابناء الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة فتأهل إبن البوسطجي و إبن الفلاح بجوار إبن الباشا الاقطاعي او البك ميسور الحال .. ليضمهم جيش خاض معارك في فلسطين و عاش علي حافة نار إضطهاد المحتل الانجليزى يحلم بالخلاص ..
لقد كان للمنقلبين هدفا محددا .. هوتقديم نموذج راسمالية الدولة العصرية كما بهرهم به هتلر و ستالين و اصبح الحلم لشباب المستعمرات كارهي الانجليز و أعوانهم من الكومبرادور المتسلطين علي الشعب الحافي العارى الفقير الجائع الذى لايجد التعليم أو الخدمة الصحية أو الرعاية الاجتماعية . لذلك فلم يكن غريبا أن يتم توجيه ميزانية الدولة نحوبناء مئات المدارس و الوحدات الصحية و الاجتماعية في طول مصر و عرضها ..أنا شخصيا ساهمت في بناء العشرات منها في سيناء و الوادى .
الرئيس عبد الناصر عندما أقام مشاريعه الإنشاءية كانت بدون تسول من الاخرين أو ديون .. (السوق الدولي و الاستاد و مسرح البالون و السيرك وأكاديمية الفنون و السد العالي و كهربة الريف ) .. و عندما بني إسكانا .. كان إقتصاديا و متوسطا و ميسرا لمستحقية و ليس للمضاربين بالاسعار لذلك فرغم الهزائم .. والفقر و السقوط الذى صاحب فترة حكمه لازال المصرى من صغار الطبقة البرجوازية يحمل لزمنه كل ذكريات طيبة .. لقد كنا جميعا فقراء و لكن هذا كان سائدا دون تمييز حتي (من كبش كبشة) في الخفاء لم يصل به الامر للتميز الطبقي الواضح .
كبارضباط جيش مبارك الذى لم يخض حروبا بعد 73 (أخر الحروب الساداتية) كان يعده المشير طنطاوى من أجل ألا يكرر ما فعله الاباء من قبل .. عليه أن يكون جيشا منضبطا ، منظما ،حسن التدريب والتسليح قليل العدد يختار أفراده من بين أكثر طبقات المصريين يسرا يرتبطون بعلاقات قوية مع الامريكان و يتكسبون (بعرق جبينهم ) من خلال صفقات إقتصادية تجعل من كبارهم مليونيرات .. وصغارهم غير محتاجين .
عندما سلم مبارك الراية لطنطاوى .. كان يعرف أنها بيد أمينة لن تتخلي عن طبقتها .. ولن تخون النظام الذى إستقر لثلاثين سنة و له دعائمة و مؤيدية .. و أساليبه في توزيع الغلة التي ترضي الجميع و تجعل أفرادا من ناهبي مصر نجوما و أبطالا يحملون الانواط و النياشين بجوار العزب و الاطيان و القصور والملايين
لقد كان الوضع مختلف تماما عندما خرجت جماهير الشعب تدق الكعب و ترفض حكم الاخوان المسلمين في منتصف العقد الثاني من القرن الحادى و العشرين.. لقد كان ضباط الجيش رجال أعمال (بزينيس من ) يمتلك قادتهم مليارات و يتحكمون في ميزانيات تفوق تلك التي يديرها سيادة رئيس الوزراء .. فليس بغريب أن يسلكوا نفس سلوك المباركية ويستدينون ليبنوا إسكانا فاخرا و قصورا بالملايين و مدنا جديدة لعظماء القوم بالمليارات..و طرقا و كبارى ومترو أو ترام توسع المجال لمشاريعهم الاقتصادية .. لتتحول القوات المسلحة لاكبر مقاول في تاريخ مصر .. يحفر الانفاق .. و يكرك القنوات .. و يستصلح الاراضي .. و يبيع اللحوم و الدواجن و البترول .. و لا يترك نشاطا يمكن أن يجلب ربحا .. لا يعمل فية .
العامل الوحيد الذى جمع ما بين ضباط الملك و ضباط المبارك .. هو الميل لافكار الاخوان المسلمين .. علي أساس أنها الفضيلة و الدين .. فيسلمون لهم القيادة مرتين ( سيد قطب كان مستشارا لرجال يوليو ) و( طارق البشرى كان مستشارا لطنطاوى ومجلسه العسكرى ) ثم التصادم معهم عندما يكتشفون أنهم تجار دين وعملة و مباديء و يريدون الجمل بما حمل ولا علاقة لهم بمفاهيم الحكم إلا من خلال ديكتاتوري فاشيستية إثنية تضطهد المرأة و المخالفين لهم و لا تتوقف عن السرقة و التهليب و النهب .
لازال الوقت مبكرا لنحكم علي أداء الرئيس السيسي .. لكن كل المؤشرات تظهر أننا في كرب عظيم سعر الدولار يتصاعد بمتوالية هندسية ، الديون و خدمتها تمتص دماء دافعي الضرائب ، الفتنه الطائفية بالصعيد و الفيوم وسيناء لا تتوقف عن نزف الدماء القبطية ، التزوير و الفساد و الترقيع في السياسات حتي تلك المتصلة بالمستقبل المحفوف بالمخاطر عندما يحكم مصر الغشاشون من أوائل الثانوية العامة .
إن طريق يوليو رغم بداياته التي قضت علي الحفاء ،والبلهاريسيا وسخرة عمال التراحيل إلا أنه إنتهي بالافلاس والسقوط في دوامه التسول والديون .. و طريق يونيو .. الذى بدأ بما إنتهي الية سابقية لا يغير و لا يتغيرمن سياستهم بمراكمة الديون و التسول وشيوع أخلاقيات و اليات الفساد وجعلها أمورا طبيعية لا تلفت نظر المصفقين .
يوليو طريق الرعاية الشكلية للشعب مع ترك مشاكله تتراكم لتسقط به إلي الدرك الاسفل .. و يونيو طريق خداع الشعب بانه يعيش في جنة الخلد بعيدا عن الاخوان المسلمين ناعما بالامن مع تركه يتصارع في دركة الاسفل بعد أن أصبح طريق الخلاص مسدودا بأطماع المليارديرات
تعددت الاسباب و الموت واحد و تعددت الحكومات و الفقر واحد سواء جاء من تدابير اليسار الناصرى أو كحصيلة لفوضي اليمين السيساوى المباركي .