هناك دول معينة فى العالم لعبت فيها الجيوش دوراً بارزاً فى بناء الوطن والحفاظ عليه، ومن ثم احتلت الجيوش مكانة خاصة فى نفوس مواطنيها، وتعد مصر من أبرز الدول التى لعب فيها الجيش على مدار تاريخه دوراً محورياً فى بناء الدولة والدفاع عنها، وفى الفترات التى ضعف فيها الجيش وتراجعت قدراته وقع الوطن فريسة لاحتلال أجنبى طالما تطلع للسيطرة على مصر ونهب خيراتها. عندما تولى الألبانى محمد على ولاية مصر عام 1805، بدأ فى بناء مصر الحديثة عبر بناء جيش وطنى قوى مزود بأحدث الأسلحة والمعدات ولديه أحدث منتجات العلم، كما أوفد البعثات إلى الخارج لتلقى العلوم فى شتى المجالات، وفى إطار النهضة الشاملة فى البلاد لعبت المؤسسات الدينية دوراً تنويرياً تنموياً ولم تكن أبداً عائقاً فى وجه العلم والتطور العلمى لأن رأس البلاد فى ذلك الوقت كانت لديه رؤية واضحة للتطور والتنمية فكان الدين عاملاً محفزاً ومساعداً على التطور ووجود رجال دين امتلكوا شجاعة التحديث والتطوير وأصبحوا جزءاً منه لا عبئاً عليه.
فى الوقت نفسه، كانت العسكرية المصرية باستمرار بوتقة الصهر التى تذوب فيها الاختلافات والتباينات كافة بين المصريين، وعُدت العسكرية المصرية بحق مستودع الوطنية، ويعد الجيش المصرى النموذج الأبرز إقليمياً ودولياً على الانتماء الوطنى وتبنى قضايا الوطن وهموم البلاد، فالجيش جزء من الشعب ولم يسبق له أن استخدم من الحاكم فى مواجهة الشعب، باستمرار كان الجيش المصرى ينحاز إلى مطالب الشعب فى مواجهة الحاكم حتى لو كان الأخير أحد رجاله، وهو ما حدث فى ثورة 25 يناير حيث كان البيان رقم واحد الذى أعلن تبنى مطالب الشعب، وعندما تكرر المشهد فى 30 يونيو وطالب الشعب جيشه بالتدخل مرة ثانية لتصحيح مسار الثورة ومعالجة خطأ الاختيار بادر الجيش مرة ثانية بتبنى مطالب الشعب، وقف إلى جواره ووفر له الحماية الكاملة وتصدى لأعداء الداخل والخارج.
بنى الجيش المصرى علاقة متفردة مع شعبه، علاقة قائمة على الولاء المطلق للوطن وتأمين وحماية الشعب وهو ما تحقق أكثر من مرة شهدت فيها تأمين الجيش للبلاد والعباد على أثر أحداث الأمن المركزى عام 1986، والانحياز إلى مطالب الشعب فى ثورة 25 يناير ثم تلبية نداء الشعب فى 30 يونيو. جاءت هذه الخواطر فى ذاكرتى وأنا أتابع تطورات الأحداث فى تركيا وتفاعلات محاولة الانقلاب الفاشلة التى قام بها قطاع من الجيش التركى، فقد هالتنى مشاهد ذبح مواطنين أتراك لجنود، وسحل بعضهم، وتجريد آخرين من معداتهم وملابسهم وأسلحتهم، وحفلات الضرب والإهانة لجنود الجيش فى بعض مؤسسات الدولة.. باختصار أهان قطاع من الشعب التركى جيش بلاده وجرده من كرامته وقتل وسحل بعض عناصره وكأنه جيش أجنبى غازٍ للبلاد، هذا مع العلم وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع توجهات الحكومة التركية والموقف ممن قاموا بمحاولة الانقلاب فإن الجيش التركى فى النهاية جيش وطنى وقام بدور رئيسى فى بناء تركيا الحديثة، هو مستودع الوطنية التركية الأتاتوركية وعلى الدوام كان يتدخل لتصحيح المسار وضبط التوجه فهو ليس بجيش من المرتزقة ولا منفصل عن الشعب هناك وهمومه.
السؤال هنا: «ما الذى جرى ودفع قطاعاً من الشعب التركى إلى ذبح وسحل وقتل جنود من الجيش بل تجريدهم من أسلحتهم وملابسهم وإهانتهم على النحو الذى شهدناه ليلة الخامس عشر من يوليو 2016؟».
نقلا عن الوطن