الأقباط متحدون - «الفسطاط» مدينة التاريخ التي أفسدها المتحرشون (تقرير)
أخر تحديث ٢٠:٤٧ | الأحد ١٧ يوليو ٢٠١٦ | ١٠ أبيب ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٩٢ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

«الفسطاط» مدينة التاريخ التي أفسدها المتحرشون (تقرير)

مدينة الفسطاط
مدينة الفسطاط

 ساحات للتحرش.. هكذا يرى المصريون «الفسطاط»، مجرد حديقة باتت تعرف بصلاحيتها في الأعياد لممارسة الموبقات، وكأن قدر المدينة التاريخية الغوص في بحر النسيان، فكما اختصرها أجيال اليوم في «زرع وأرض فضاء» تناسب مزاج المغرمين بالحب المُحرّم، حوصرت على مدى عقود في المناهج الدراسية بإشارات دون تفاصيل عن كونها أول مدينة إسلامية أنشأها عمرو بن العاص أثناء الفتح الإسلامي لمصر، بينما أسُقطت من ذاكرة الأجيال المتعاقبة ما مثلته هذه المدينة من دلالات، لخصت عبقرية المكان وتقلبات الزمان.

 
«فيتو» تلقي الضوء على المدينة التاريخية، وقصة نشأتها منذ الفتح الإسلامي وحتى الآن، وكيف تحولت للقاهرة، والآثار الحقيقية المتبقية منها حتى الآن.
 
فتح المسلمون مصر، وكان عمرو بن العاص يريد أن يتخذ الإسكندرية قاعدة للإدارة والجيش، باعتبارها عاصمة ومركز ثقل مصر وقتها، ولكن عمر بن الخطاب، لم يوافقه في ذلك، وأمره بإنشاء مدينة جديدة، حتى لا يستفز الأقباط.
 
وبحسب المقريزي، كان موقع الفسطاط عبارة عن أرض فضاء، على مساحة لا تتعدى خمسة آلاف متر، ما بين النيل والجبل الشرقي، الذي يعرف بالمقطم، ولم يكن في هذا المكان من ملامح العمارة، سوى حصن يعرف بعضه اليوم بـ«قصر الشمع». 
 
وربما تكون عبقرية ابن العاص في اختياره للفسطاط، رؤيته المستقبلية للموقع، فالمدينة ظلت قابلة للتوسع من الشمال، فبنيت مدن: العسكر، والقطائع، فالقاهرة، مرورا بأحياء العباسية، ومدينة نصر ومصر الجديدة، في العصر الحديث. 
 
سر التسمية بالفسطاط
هناك جدلية حكمت سبب التسمية، وظلت لفترات طويلة محل نزاع بين المؤرخين المسلمين والمستشرقين، الذين أكدوا أن كلمة الفسطاط اشتقت من أصل يوناني يسمى فسطاطوم، ومعناه الحصن أو الخندق، وهو الزعم الذي اختلف معه الدكتور حسن الباشا أستاذ التاريخ الإسلامي قائلا إنه لا يستند إلى حقائق، موضحا أن الفسطاط معناه المخيم، وتحديدا ذلك الذي نصبه ابن العاص، وقت محاصرته حصن بابليون، ومن ثم صار يطلق على المدينة التي شيدت مكانه.
 
واستند الباشا في مرجعيته لتأكيد عربية اللفظ، لحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي قال فيه: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط، أي مع المدينة التي يجتمع بها الناس، وعزز مصداقية مرجعه، أن مدينة البصرة العراقية كان يطلق عليها قديما الفسطاط، أي المدينة.
 
كيف تم تخطيط المدينة 
بدأ ابن العاص وضع اللبنات الأولى في تخطيط مدينته، ببناء مسجده الجامع، والذي سمي على مدى الأزمنة بعده مسميات، منها الجامع العتيق، والفتح، وتاج الجوامع، وأهل الراية، وهم نخبة المهاجرين والأنصار الذين كانوا يشكلون التكتلات الرئيسية في جيش عمرو، ليصل الجامع في النهاية لاسمه الحالي، جامع عمرو بن العاص. 
 
وبجوار المسجد بني عمرو دارا له، سميت دار الإمارة، وأمام هذا المنزل ترك فضاءً فسيحا يتسع لدواب الجند، ومن مسجد عمرو انطلق التخطيط العمراني في المدينة، واعتبرت القبائل العربية، جامع عمرو وداره، مركزا للتنافس على السكن بجواره، ودبت بعض المشكلات، ولحسم النزاع اختار عمرو أربعة من قوادة، يمثلون القبائل الكبري للفصل بين المتنازعين، وتولوا بدورهم تقاسم مراكز النفوذ والقرب من منزل وجامع عمرو، وفقا للتوجهات الدينية والسياسية.
 
 
ويؤكد بعض المؤرخون أن المدينة في شكلها الأول، كانت أشبه بالقبيلة، فمن العادات والتقاليد التي حكمتها، إلى النمط العمراني الذي تم تطبيقه شكلا ومضمونا، إذ لم تكن المنازل متساوية في مساحتها، أو وفقا لنظريات هندسية من التي كان متعارف عليها في هذا التوقيت، بل تم خطها حسب الظروف والحاجة، والوضع السياسي والاجتماعي للقبائل التي لم تكن متساوية في العدد أو النفوذ، كما أنشئت كل قبيلة مسجدا خاصا بها بالقرب من تجمعاتها.
 
فيما أخذ في اعتبار التخطيط المركزي للمدينة، إقامة سوق كبير، ليشهد شاطئ الفسطاط نشاطا تجاريا متزايدا، خاصة بعدما أعاد عمرو شق القناة القديمة التي كانت تربط بين البحر الأحمر والنيل، لتجري السفن العربية، محملة بالغلال والقمح المصري للحجاز. 
 
التحصين العسكري 
لم يشرع ابن العاص، في إقامة سور تقليدي لحماية المدينة، كما كان متبعا في هذه الأزمنة، ولم يتخذ من حصن بابليون الروماني الشهير وسيلة للحماية، بل اكتفي بالحصن الطبيعي للموقع، والذي تحميه التلال من الشرق والجنوب، والنيل من الشمال، فضلا عن تدشين نوعا جديدا من المنشآت، قالت عنها المصادر التاريخية، أنها كانت بنايات في وسط القبائل، وعلي حدودها الفاصلة ونقاط التقائها مع القبائل الأخرى، وسميت بالمحارس؛ مراكز الشرطة حاليا.
 
التحول إلى المدنية وشيوع العربية 
تأثرت المدينة بالتحولات التاريخية والاضطرابات في صراعات الحكم والخلافة، والتي اشتدت في عهد الدولة الأموية، حتى أنها بقيت في يد عبد الله بن الزبير أثناء ثورته على معاوية بن أبي سفيان، وظلت معه عاما كاملا، حتى زحف إليها عبد العزيز بن مروان، أشهر من تولوا حكم مصر، وقام بنهضة عمرانية متكاملة في الفسطاط، ليأتي من بعده الوليد بن عبد الملك، ليآمر بتعريب دواوين الحكم، ونسخها باللغة العربية، بدلا من اليونانية والقبطية. وهو ما اضطر الأقباط المقيمين، في المدينة والعاملين في الدواوين، إلى تعلم اللغة العربية والاندماج مع المجتمع الإسلامي.
 
وتحولت المدينة مع هذه التفاعلات عن وظيفتها الأولى، كونها أنشئت لتكون معسكرا للجيش الإسلامي، إلى مدينة عصرية مختلطة سكانيا، وسط اندماج كامل بين المصريين والعرب الذين افتتنوا بحرفية أصحاب الأرض، فأخذوا عنهم الصناعات النادرة المختلفة، من الألباستر الفرعوني، مرورا بالصناعات التي واكبت الحقبة الإسلامية، حتى أن كسوة الكعبة أسست لها دارا بحي «الخرنفش» عام 1233هـ، والذي يقع عند التقاء شارع بين السورين وميدان باب الشعرية، وما زالت هذه الدار قائمة حتى الآن، وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة داخلها.
 
واستمر العمل في دار الخرنفش حتى عام 1962م، إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة بعدما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها. 
 
وأصبحت الفسطاط من أهم المراكز التجارية والصناعية في المنطقة العربية والإسلامية، حتى تسبب التلاحم بين المصريين والعرب المواليين للأمويين، في ابتعاد العباسيين الذي استولوا على السلطة، وأنهوا حكم الدولة الأموية، عن المدينة التاريخية، واتخذوا من شمالها الشرقي، مركزا لتأسيس مدينة «العسكر»، كقوة توزاي أنصار الأمويين في الفسطاط، لتصبح مقرا لحكمهم. 
 
 
القطائع 
دخل القائد التاريخي، أحمد بن طولون الفسطاط، بتكليف من صهره العثماني «باكباك»، واستقر في بداية الأمر بدار الإمارة في العسكر، ولكن القائد القارئ النهم للتاريخ، وجد أن المدينة الثانية، لم تبتعد كثيرا عما آلت إليه المدينة الأم «الفسطاط»، ولم تنجح خطة العباسيين في تغيير التركيبة السكانية للفسطاط، بإضافة مدينة جديدة إليها، بسبب نفس التحولات السياسية التي نالت من الأمويين والعباسيين، فصعد القائد المحنك إلى جبل المقطم، ليري بنظرة ثاقبة قطعة أرض فضاء بين العسكر والفسطاط، فأمر ببناء مدينة عليها.
 
وامتدت المدينة الوليدة من أسفل قلعة محمد على حاليا، إلى منطقة السيدة زينب، ولم يبتعد ابن طولون عن سيرة الأولين، فبني قصره ومسجده، وتقاسم الوجهاء والقادة المناطق الرئيسية بالمدينة، واقتطع كلا منهم منطقة خاصة به، ومع حركة الزمن وتحول المدينة عن هدفها العسكري، باتت القطائع تعرف، حسب الحرف المشهورة في ذلك التوقيت، من العطارين، للبززاين، والبقالين، وهي الأسماء التي لا يزال بعضها موجودا حتى اليوم.
 
كيف أصبحت القاهرة مقرا للقيادة
مع تأسيس القاهرة، تحولت دفة القيادة السياسية بعد حريق الفسطاط وحركة التقلبات التاريخية في المدينة العتيقة لنظيرتها الوليدة، وبات مقر القلعة المحصن بالقاهرة وفقا لأحدث النظريات العسكرية وقتها، أفضل كثير لجعله مركزا للحكم، خاصة أن العمران نفذ من المدن التاريخية القديمة على القاهرة، وباتت تسمي جميعها «مصر»، وذلك كان متبعا في كل العواصم العربية وقتها، ففي الشام ـ سوريا ـ كان يطلق على دمشق الشام.. كلفظ جامع.
 
وسيطرت الألفاظ الجامعة للمدن التراثية، على كافة مكونات المجتمع المصري، والعربي، حتى أن علماء التاريخ وخبراء الجغرافيا مثل المقدس وخسرو وابن الأثير، ذكروا اسم مصر في الأحداث التاريخية، ومن رواة التاريخ إلى العامة، وخاصة الوافدين للعاصمة من الصعيد والأقاليم حتى اليوم، الذين يقصدون القاهرة يطلقون عليها اسم «مصر» 
 
الآثار المتبقية.. جامع عمرو بن العاص 
أول مسجد جامع أقيم في مصر، لذا سمي بالجامع العتيق، وتاج الجوامع وتم إنشاؤه عام 21 هـ، وشارك في بنائه لفيف من صحابة رسول الله، منهم الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت، وخلال العصور المختلفة وصلت التوسعات والزيادات بالمسجد لأكثر من خمس مرات، حتى صار تحفة معمارية أثرية كما هو حاليا.
 
جامع ومدفن سليمان باشا الفرنساوي
ولد سليمان باشا الفرنساوي في فرنسا، وقدم إلى مصر ضمن ضباط حملة نابليون بونابرت، ثم عمل مع محمد على باشا، وأسلم وعهد إليه بتأسيس الجيش المصري الحديث، واشترك مع المصريين في حروب اليونان وسوريا، ليتم تعيينه بقرار من سعيد باشا والي مصر، رئيسا لأركان حرب الجيش المصري، كما كلف بإنشاء المدرسة الحربية عام 1855.
وأنشأ الفرنساوي مجموعة معمارية في مصر القديمة، عبارة عن جامع وكُتّاب ومدفن، ومنشآت تراثية أخرى بجوار بعضها، لا تزال صامدة في وجه الزمن حتى اليوم.
 
أسوار الفسطاط 
على عكس ابن العاص، لم ينس صلاح الدين الأيوبي مطلقا مطامع الصليبين في مصر، فوضع نظام تحصين قوي يقي البلاد شر المطامع، فبنى سورا التف بالفسطاط والقاهرة، وأوسطه بقلعة ضخمة أعلى جبل المقطم، وهي القلعة التي تمثل أهم معالم مصر الإسلامية حتى اليوم.
 
الكنائس 
تميزت الفسطاط بعشرة كنائس متجاورة مع بعضها، وحظيت بعناية العصور الإسلامية المتعاقبة، ربما تكون أشهرهم على الإطلاق الكنسية المعلقة، والتي تم بناؤها على برجين من أبراج حصن بابليون الروماني، وكان لها أهمية دينية خاصة، حيث كان يتم فيها ترسيم البطاركة، والاحتفالات الدينية، وحتى محاكمة الخارجين على الطقوس الكنسية.
 
بينما تحتل كنيسة أبي سيفين أهمية كبرى، والتي تقع أيضا داخل الحصن الروماني، وتتخذ أهميتها من تسميتها، تيمنا وتباركا بأشهر قديسين في تاريخ الاستشهاد المسيحي، وهما سرجيوس وواخسيس، فضلا عن ارتباط الكنيسة بقصة مجيء العذراء والمسيح ويوسف النجار لمصر، في رحلة هروب العائلة المقدسة من هيردوس ملك اليهود، واحتمائهم بمغارة أسفل الكنيسة.
 
المعابد اليهودية 
من ضمن غرائب الفسطاط، ضمها لأكثر من 19 معبدا يهوديا، في مختلف أنحاء المدينة، أهمهم على الإطلاق معبد بن عيزرا، والذي نسج اليهود حوله الأساطير، مؤكدين أن الصندوق الذي وقف فوقه موسى عليه السلام، وهو يناجي الله، بجبل طور سيناء، هو نفس المكان المقام فيه المعبد.
 
وكان المعبد المثير للجدل، كنيسة في الأصل، حتى العهد الطولوني، وعجز وقتها المسيحيين عن دفع الجزية المقررة على الكنيسة بعشرين ألف درهم، ليقوم الحاخام إبراهام بن عيزرا، بدفع الجزية المقررة، ويغير الكنيسة لمعبد سمي باسمه، وأدخلت عليه تعديلات معمارية، لتناسب الديانة اليهودية.
نسخة للطباعة  

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter