تمر الذكرى الثالثة لـ 30 يونيو ،و يمر نصب عيناي شريط عام الإخوان في الحكم ، لربما أن أكثر تلك اللحظات التي تملكني فيها الخوف و الأمل في ذات الوقت كان صباح أحد أيام شهر ديسمبر 2012 حين تلقيت مكالمة هاتفية من إدارة عملي في مبنى الإذاعة و التليفزيون تفيدني علمًا بأن هناك دعوة للمذيعين و المخرجين في قاعة الدور التاسع بماسبيرو، و ذلك من أجل التباحث في دور الإعلام في دعم مشروع يهم الوطن.
جلس على منصة القاعة رجل ذو لحية خفيفة، صوته هادئ و متزن، وجهه ُتقطر منه السماحة ، فاسترعى انتباه الجميع . قدم نفسه على أنه صاحب مشروع قومي يحتاج فيه إلى معاونة الإعلام و الإعلاميين للترويج له .
المشروع يحمل اسم " أخلاقنا الحلوة " ، و يهدف المشروع إلى معالجة الأخلاق المتدنية التي يعاني منها الشارع المصري ، حتى هذه اللحظة تسير الأمور بكل سلاسة ، و كلنا آذان صاغية نستمع في هدوء ، فلم لا نشترك في مشروع توعوي إعلامي عن الارتقاء بالأخلاقيات؟!
و لكن إنصاتنا كان الهدوء الذي سبق العاصفة ..لأن المشروع كان يتضمن متطوعين يرتدون قمصان مكتوب عليها حملة أخلاقنا ، يسيرون في الشارع ليرصدون الانتهاكات الأخلاقية و يتحدثون إلى مرتكبي تلك الانتهاكات بالكلمة الطيبة و الحسنة عملا بمبدأ من رأي منكم منكرًا فليغيره !!
و انقلبت القاعة رأسًا على عقب و انطلقت الهتافات من جنباتها تستنكر مشروع " الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر " و رفض أغلبية الإعلاميين الحاضرين ( إلا قليلا ) الاشتراك في مشروع يحول مصر لدولة " المطوع " كما كانوا يقولون، كنت فخورة بزملائي الذين غامروا بأنفسهم وهم يرفضون و يصرخون قائلين " هذه قضية لا تهم الوطن هذه قضية تهم مكتب الإرشاد " بل صاح بعضهم بكل شجاعة " يسقط يسقط حكم المرشد "
شعرت يومها بالأمل في أننا لن نصمت على دولة الإخوان الدينية و شعرت كذلك بالخوف لأن الوقت يداهمنا و أن دولة المرشد لن يهدأ لها بالا و لا سوطًا دينيًا أو طائفيًا حتى تحكم السيطرة على كل مؤسسات الدولة .
دار النقاش حينها حول كيف يتم إسقاط الإخوان ؟ هل بعزلهم من الحكم و الثورة عليهم أم بالانتخابات و إرادة الشعب في انتخابات مقبلة ؟ كان السؤال الأهم " هل سنتمكن من عزل هؤلاء قبل أن يسيطروا على مؤسسات الدولة كاملة فعلا أم أن الوقت يداهمنا ؟
شبح ثورة إيران 1979 كان يلاحقنا حينها ، فهي ثورة النساء و العمال و الليبراليين و شارك فيها الإسلاميين على اعتبارهم من مناهضي حكم الشاه و انتهت بقفز الملالي على الحكم .
فلربما تخلصت إيران من الشاه و لكنها كذلك تخلصت من معارضيه و أصاب الخميني عصفورين بحجر واحد ، فتخلص من الشاه و من مدنية الدولة ... ليصيب هدفه وأضحت إيران دولة دينية ثيوقراطية كاملة ، فعاقبت إيران نسائها الحالمات بالحرية بقانون فرض الحجاب، وأعدم الخميني معارضيه الذين أوصلوه للحكم بعد أن تمكنت دولة الفقيه لاحقًا من كافة مؤسسات الدولة بشكل كامل، واختطف الخميني الثورة الشعبية وأسماها بالثورة الإسلامية. أما العجيب في الأمر أن ثوار إيران اعتبروا الخميني يمثل الوسطية في الإسلام قبل أن ينقلب عليهم، فأعطاهم جرعة من الوسطية أرسلتهم إلى قبورهم و سجونهم دفعة واحدة .
من كانوا يرفضون السيناريو الإيراني قائلين لا يمكن أن يحدث في مصر، ارتموا في أحضان المشهد التركي، رافعين شعار " تركيا يحكمها حزب إسلامي ، وهي دولة مدنية، وكان هذا قياسًا فاسدًا بكل ما تجمله الكلمة من معنى لسببين :
أولهما أن تركيا في الأصل بلد دستوره علماني صريح، أي أن مدنية تركيا لا علاقة لها بالحزب الإسلامي الذي يحكمها وإنما كان وصوله للحكم عام 2002 نتاجًا لتلك العلمانية.
ثانيهما أن رئيس وزراء تركيا أردوغان وحزبه يعملان رويدا رويدًا لأسلمة تركيا ولربما كانت آخر التصريحات التي أثارت زوبعة كبيرة هناك هو ... ما قاله رئيس البرلمان التركي اسماعيل كهرمان في ابريل 2016 حين صرح بأن تركيا في حاجة إلى دستور " ديني " واعتبر كثير من المحللين أن هذا التصريح الذي انتقده لاحقا رئيس الوزراء التركي داوود أوغلو... مجرد جس نبض على الطريقة الأردوغانية .. إنه أسلوب مفتاح الصبر الذي لم يتمتع به الإخوان في مصر.
كان شعار " لن يحدث أبدًا في مصر ".. شعار جاهز للرد على أي تخوفات بشأن استمرار الإخوان في الحكم والتحول إلى دولة دينية ثيوقراطية كاملة ، والسؤال الحتمي هنا هو "ألم يحدث في مصر بالفعل ؟ ألم تتحول مصر شيئا فشيئا على مدار أربعة عقود سابقة إلى دولة ذات صبغه دينية بفعل الدستور الذي أقحم مادة الشريعة الإسلامية بين مواده وجعلها مادة فوق الدستورية ؟ ألم يسجن الكتاب والمفكرين بتهمة ازدراء الأديان على مدار ما يزيد على ثلاثين عامًا؟ ألا تنص المادة 60 من قانون العقوبات المصري بأنه لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة؟ وحين يقول المصريين أن بلادنا لا تقيم الحدود ، نرد عليهم آسفين بأن المشرع المصري لم ينكر الحدود لكنه قام بتعطيل العمل بها ..أي أن المشرع لم ينكرها كجزء من العقيدة ولكن قام بتعطيلها إيقاف انتظار لعدم تحقق شروطها الشرعية !!
أما على الجانب الإجتماعي والثقافي ألم يصاب المجتمع بالدروشة الاجتماعية ؟ ألم تتشح مصر بسواد النقاب في محافظاتها ومدنها ؟ ألم ُيغيب الإعلام العقول بنظريات الإعجاز العلمي للقرءان بدلا من الترويج للمنهج العلمي؟ ألم يقف رجال الحزب الوطني يزايدون على وزير الثقافة ويحاسبونه على تصريحاته بشأن الحجاب عام 2006 تحت قبة البرلمان؟ في حقيقة الأمر إن الإخوان كانوا يمثلون القشة الأخيرة التي ستقصم ظهر ما تبقى من الدولة المدنية ، وكانت تلك أخطر قشة .. فالإخوان كانوا بدئوا بالفعل في فترة حكمهم في الإعداد لإحياء مشروع تقنين الشريعة الإسلامية الذي ظل حبيس أدراج مجلس الشعب لأكثر من ثلاثين عامًا وكان هو القانون الذي كان سيعمل على توافق أحكام كافة القوانين في مصر مع الشريعة الإسلامية وليس فحسب الأحوال الشحصية والميراث .. مصر كانت على شفا حفرة دولة الفقيه
كل ذلك تداركته وأنا أزحف في طريقي للاتحادية يوم 30 يونيو لكنني تداركت شيئًا آخر ، وهو أن مدنية الدولة أكبر بكثير من مجرد عزل الإخوان من الحكم ..
كان علينا بعد 30 يونيو أن نطرح تساؤلات عديدة حتى وإن كانت موجعة ومنها:
هل كفت الدولة عن إقحام الدين في شئونها السياسية بالفعل ؟ هل وضعت الدين جانبًا من شئونها أم قامت بتأميمه و تأويله لصالحها ؟
هل الدولة المدنية هي تلك التي ترفع شعار تطبيق صحيح الدين ؟ أم الدولة التي تقف على مسافة متساوية من جميع العقائد حتى لو لم تكن ديانات إبراهيمية ؟
هل الدولة الدينية هي تلك الدولة التي يحكمها رجل دين أو مرشد الجماعة الإسلامية أو رئيس ملتح؟ أم الدولة الدينية هي تلك التي يعتمر فيها الدستور والقانون العمامة الدينية؟
هل هناك دولة مدنية تسجن الروائيين و المفكرين بتهمة ازدراء الأديان لأن خيالهم كفر و بهتان عظيم ؟
هل تسجن الدولة المدنية أطفالا مسيحيون بتهمة ازدراء الأديان لأنهم قاموا بالسخرية من تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) في مقطع فيديو لا يتعدى 30 ثانية ؟
هل هناك دولة مدنية تشرف أجهزنها الأمنية على الترحيل و التهجير القسري احتكامًا للأعراف لا للقانون ؟
هل تحاسب الدولة المدنية أطبائها لأن آرائهم العلمية قد تخالف تفسيرات فقهية بعينها ؟
هل هناك دولة مدنية يعترض فيها الأزهر على مدنية الدولة أثناء كتابة الدستور – كما حدث في دستور 2014 – فيتغير نص المادة إلى دولة ذات حكم مدني إرضاءا للمؤسسة الدينية و الفرق بين مدنية و ذات حكم مدني له مدلول كبير ؟
هل تقاس مدنية الدولة بطول لحية الرئيس ؟ هل تقل مدنية الدولة كلما طالت اللحية و تزيد مدنية الدولة ان كان الرئيس حليق الذقن؟
هل الدولة المدنية هي تلك الدولة التي يعين فيها الرئيس الوزيرات غير المحجبات ؟ أم أنها الدولة التي لا تضع سقفًا لحقوق نسائها و لا تربطها بمجرد حقها حسب الشريعة الإسلامية !!
الخاتمة
و حتى لا نضحك على الذقون فعلينا أن ندرك أن 30 يونيو لم تقضي على الفاشية الدينية في مصر ، بعد ثلاثة أعوام من هذا التاريخ ، اتضح أننا لم نقم بثورة تؤسس فعلا لمدنية الدولة ولا بثورة دينية لتجديد الخطاب الديني، بل قمنا بثورة عادت بنا من مشارف دولة الخلافة السنية التي أرادها الإسلاميون.. إلى المربع صفر ( مربع ما قبل 2011) أي عدنا للدولة التي تتقمص دورًا مدنيًا بالرغم أنها ذات ذراع ديني .
عدنا بالفعل من حافة دولة حمساوية النزعة، لكن هذا ليس بالضرورة انتصار للدولة المدنية التي لازالت في مهب الريح والتي خاطرنا بحياتنا من أجلها يوم 30 يونيو و ما سبقه من وقفات و احتجاجات
لربما نحتفل بمرور ثلاثة أعوام على رحيل الإخوان من الحكم ، إلا أن اختزال مدنية الدولة في رحيل الإخوان تغييب للوعي المجتمعي و لا يقل عن تغييب العقول الذي يمارسه التيار الديني في مصر .
و السؤال الأهم الذي يتوجب علينا طرحه ... .هل هناك فعلا دولة مدنية بمرجعية دينية أم أن هذا ضحك على الذقون ؟ فليست كل الذقون إخوانية سلفية .
نقلا عن مصريات