الأقباط متحدون - مفهوم الحياة الصوفية
أخر تحديث ١٣:٤٩ | الاربعاء ٢٩ يونيو ٢٠١٦ | ٢٢ بؤونة ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٧٤ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

مفهوم الحياة الصوفية

يوسف زيدان
يوسف زيدان

سوف نخالف اليوم ما اعتدنا عليه فى الفترة السابقة من تناوب بين المقالات والقصص القصيرات، بحيث يكون لقاؤنا الأسبوعى على هذه الصفحة مرة لهذه، والتالية لتلك، والسبب فى ذلك أن مقالة الأربعاء الماضى عن إعادة بناء مفهوم التصوف، تحتاج مزيداً من التبيان والإبانة عما يمكن أن يفعله التصوف، عملياً، فى حياة كل إنسان من دون استثناء.. وللتذكرة، فقد انتهينا من المقالة السابقة إلى أن التصوف يختلف جوهره عن الصورة الفلكلورية «الشعبية» المشهورة فى أذهان العوام وأوهامهم. ولا علاقة فعلية بين جوهر التصوف والمظاهر الاحتفالية المسماة «الموالد»، ولا صلة بين هذا الجوهر الصوفى بمعناه العميق وما يعتقده العوام من وقوع الكرامات وخرق العادات وحكايات الإتيان بفاكهة الصيف فى الشتاء، ولا ارتباط ضروريا بين التصوف كنزعة أصيلة فى النفوس المتحضرة والمظاهر الشكلية للتنظيمات والطرق الصوفية التى ظهرت فى تراثنا بعد عدة قرون حافلة بالخبرات الروحية والتجارب الذوقية لكبار الأولياء.. وقد كتبت فى ذلك بحثاً مطولاً بعنوان: كرامات الصوفية، نصاً أدبياً مضادا للتصوف «فى كتابى: المتواليات فى التصوف».

وحسبما أسلفنا فى المقالة السابقة، فإن جوهر التصوف وحقيقته ودلالته العامة، تتجاوز حدود الدين وترتبط بالنزعة الإنسانية العامة التى ظهرت مع انتقال «البشرية» من أحقاب الهمجية والبدائية الأولى التى امتدت قرابة مليون سنة، إلى أطوار «الإنسانية» التى نتجت عن عمليات التحضر فى العشرة آلاف سنة الأخيرة، كان التصوف خلالها يسمى بأسماء متعددة: نسك، رهبنة، حنيفية، كهانة، قبالة، محاولة التماس مع النرفانا، غنوصية، زهد.. ويرتبط بمفاهيم علوية، لا مادية، تجعله وثيق الصلة بالإبداع والفن واستكناه أسرار الكون، واستكشاف الآفاق الروحية الرحيبة.

وقبل الدخول فى مفهوم «الحياة الصوفية» التى هى الجانب التطبيقى لمفهوم «التصوف» فى حياة كل إنسان يعيش فى المجتمع المعاصر، بصرف النظر عن الاختلافات بين الأفراد، نذكر بالفقرة الأخيرة فى المقالة السابقة، ونشير إلى الرسالة التى وصلتنى تعقيباً على المقالة.. كان نص الفقرة الأخيرة:

وفى زماننا المعاصر وبسبب ازدياد الجهل وغلبة التخلف على مناحى حياتنا، ونظراً لافتقادنا المنهجية والنزعة النقدية، مع إهمالنا الفادح لعملية إعادة النظر فى المفاهيم الأساسية، فقد ارتبط مفهوم التصوف فى الأذهان بأوهام كثيرة لا صلة تجمعها به، بل هى أحياناً مناقضة له، مثلما هو الحال فى ربط التصوف بالكرامات، وفى اعتقاد العوام بأن الطريق الصوفى لا يصح بغير وجود الشيخ، وفى توهم بعضهم أن صحبة الشيخ تمتد طيلة العمر، وفى ظن كثيرين أن «الأوراد والأذكار» هى الغاية من التصوف لا الوسيلة لتهذيب النفس، وفى قيام «مجلس أعلى للطرق الصوفية» يتولى الإداريات وإصدار الكارنيهات للمريدين.

■ ■ ■
وتعقيباً على ما سبق، وصلتنى رسالة من قارئة اسمها «صوفيا» لا أعرفها شخصياً، لكننى أعتقد أنها لمست بتلقائية المعنى العميق للحياة الصوفية.. تقول القارئة فى رسالتها المكتوبة كمزيج بين العامية والفحصى: «رمضان السنة دى، قررت إنى أتعبد بشكل مختلف، وعندى يقين إن ربنا من كرمه هيتقبل. إن فعلاً أعترف أدام نفسى بحقيقتها وجوهرها وعيوبها، وإنى أواجه كل مخاوفها على طول الخط دون هروب، وقررت أنى أفكر، وأتحرر من كلام من يستشيخ، أسلم روحى لله، وأستعين به فى مواجهتى، هو مش المفروض، نشوف أثر الصيام والصلاة والقرآن؟ ولا إيه يا دكتور».

■ ■ ■
تمثل هذه الرسالة أنموذجاً مثالياً للحياة الصوفية الجامعة بين البساطة والعمق، وبصرف النظر عن أن صاحبة الرسالة اسمها «صوفيا» وهى الكلمة اليونانية القديمة التى تعنى «الحكمة» وقيل إن لفظ «الصوفية» مشتق منها، وبصرف النظر عن عامية العبارات ورقتها الخالية من الزخرفة البلاغية والتفاصح، وهو ما يذكرنى بالمعنى «الصوفى» الذى ورد فى أبيات شعرية بديعة لهلال بن العلاء، يقول فيها: سبيلى لسان كان يعرب لفظه، فيا ليته فى ليلة العرض يسلم، وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى، وما ضر ذا التقوى لسان معجم.

بصرف النظر عن ذلك، نرى فى رسالة القارئة تجربة روحية حقيقية، تقوم على توسعة مفهوم «العبادة» وإخراجه من حيز النمط الشكلى المعتاد إلى حرارة الشعور باليقينى العميق، بأن الله واسع عليم، لا يحكمه إطار ولا يحوطه حد، وسوف يقبل من العبادة، بكرمه، ما كان فيه الإخلاص صدق الحال.. وهذا هو معنى العبادة عند الصوفية، حيث لا ترتبط بالعدد أو بالشكل الظاهرى، وإنما بتخلية القلب من الشواغل الدنيوية وتحلية الروح بالفضائل العلوية، ومن هنا قال الصوفية الكبار إنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وقالوا: المدار على القلب، وقالوا: أخذتم علمكم عن ميت، ونأخذ علمنا عن الحى الذى لا يموت.

والحياة الصوفية، حسبما ترسمها سيرة الأولياء الكبار من صوفية الإسلام، والقديسين من خواص الرهبان والنساك، والحكماء الغنوصيين «الغنوصية هى المعرفة المباشرة دون وسائط» على اختلاف عقائدهم وفلسفاتهم، تبدأ مما أشارت إليه القارئة بقولها إنها ستجعل من مواجهة نفسها بعيوبها، سبيلاً للارتقاء الروحى.. وهو المعنى الذى طالما أشار إليه أهل الطريق الصوفى، شعراً ونثراً، فقال شاعر الصوفية الأشهر «ابن الفارض» بشكل رمزى: قتلت غلام النفس بين إقامتى الجدار لأحكامى وخرق سفينتى، وقال «البوصيرى» بشكل أبسط: والنفس كالطفل إن تهمله شب على.. حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.

وجهاد النفس ومقاومة تعلقها بالماديات، هو سر «الطريق الصوفى» الذى يختلف مساره من شخص إلى آخر، ولهذا قال نجم الدين كبرى، وهو الصوفى العارم البديع، فى عبارة حاسمة من عباراته المشهورة: الطرق إلى الله على عدد أنفاس البشر.. يعنى أنه لا يوجد طريق مرصوف محدد المسار، يمكن للإنسان أن يسلكه بشكل ميكانيكى، وإنما هى سبل ومسالك ودروب وعرة، تختلف باختلاف نفوس الناس والحيل الخداعية التى لا تنتهى، فالنفس تأنف الطاعة العميقة وتستعلى بالطاعات الظاهرة، فتستقوى على صاحبها وتقوده نحو مطالبها الحسية، وميلها الفطرى إلى الاستعلاء الوهمى والميل إلى المديح والاتفاف حول الحق بالباطل.. ومن هنا قال أهل الطريق الصوفى، إن أول مرحلة فى هذا «الطريق» الروحى، هى: كسر حدة النفس.

وعلى هذا النحو، اهتدت القارئة صوفيا «الصوفية، المتصوفة من دون أن تدرى» إلى أولى قواعد الحياة الصوفية، من دون احتياج لشيخ طريقة يأخذ عليها العهد ويكلفها بقراءة أوراد وأذكار معينة وتكرارها فى اليوم مئات أو آلاف المرات.. هى فقط، استمعت للصوت الصادق الآتى من داخلها، وهو المشار إليه فى حديث «استفت قلبك» فلم تقع فى أحابيل هؤلاء المتاجرين بالمشاعر الدينية، أو بحسب تعبيرها: تحررت ممن يستشيخون! أو بعبارة أوضح: تخلصت من خزعبلات مدعى المشيخة والولاية، وفكرت، أو بعبارة أوضح: تأملت الآيات فى نفسها وفى الكون، وهو ما يعرف فى المصطلح الصوفى بالمراقبة، والمشاهدة، وإجلاء المرآة الذاتية لقبول التجليات الإلهية.. وهنا تنعدم الحاجة إلى سخائف الفتاوى وحذلقات الأقاويل الشرعية، التى من نوع: حكم استعمال الشطاف فى نهار رمضان، دعاء الدخول إلى الخلاء «المراحيض» إباحة تقبيل الزوجة فى نهار رمضان «ومص لسانها» كراهة تهنئة غير المسلمين بالعيد، ضرورة إسدال الأسوداد على النساء، جواز نكاح الطفلة مادامت تحتمل النكاح.. وغير ذلك من سفاسف الأحكام الظاهرية التى تهدر المعانى العميقة للعبادة، وتجعلها أنماطاً شكلية لا صلة لها بأحكام الروح الحيرى والقلب المتقلب بين الصحو والغفلات.

وفى الحياة الصوفية، طبعاً، أثر للعبادات وإن قل عددها مادام صاحبها صادقاً ومخلصاً، وهو الأثر المسمى فى المصطلح الصوفى المتأخر زمناً «نقش بند» والمتجلى على مرآة الباطن عبر المشاهدات القلبية والأحوال الروحية والتجليات التى ترتقى بالنفس الإنسانية من الطور الموصوف بالنفس الأمارة «بالسوء» إلى النفس اللوامة «عند وقوع المخالفات» إلى النفس المطمئنة، الراضية المرضية، التى يدرك صاحبها أن النفس هى نفس الله أو النفخة الإلهية فى الإنسان.. وهذا هو معنى «خلافة» الإنسان فى الأرض، ومعنى الارتقاء مما هو مادى إلى ما هو علوى، ومعنى التجربة الصوفية المتاحة أمام كل إنسان استطاع السيطرة على النوازع الحسية والأوهام السلطوية والمخادعات الظاهرية والرغبات الداعشية الكامنة فى قاع النفوس منذ زمن الهمجية البدائية.. باختصار، الحياة الصوفية هى أسلوب حضارى للعيش، يمكن لكل إنسان أن يحققه ويتوغل فى مساره، مادام صادقاً ومخلصاً.

■ ■ ■
وبعد.. فسوف نعود ابتداءً من الأسبوع المقبل إلى سيرتنا الأولى، فنلتقى مع قصة قصيرة، وقد بدأت فى كتابة مسودات مجموعة من القصص القصيرات، سوف يكون عنوانها الجامع حين تنشر معاً «لاحقاً» هو: الأزقة الضيقة، أما المجموعة التى قبلها، فقد تنشر قريباً بعنوان: حيوات أخرى، لتلحق بمجموعتى القصصية الأولى، التى نُشرت العام الماضى بعنوان: حل وترحال.
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع