كنت أتطلع فى صباى إلى أن أكون رساماً، حضرت الإرادة وغابت الموهبة، لكننى لم أتوقف عن السعى لفك تشابكات الألوان، ومحاولة قراءة ما وراء اللوحات، فاستغرقنى التأمل لينتقل بى إلى لوحة الحياة، الغارقة فى صراع ينتهى فى غالبيته إلى سراب، ينهل من ماء مالح لا يروى من ظمأ، وأجد نفسى وقد صرت برأى الكاتب الصحفى الكبير كامل زهيرى «قارئاً محترفاً وكاتباً هاوياً»، واكتشفت بعد أن خط الشيب رأسى ثقل كليهما، القراءة والكتابة، خاصة عندما يكون الوطن موضوعهما الأثير.
وقد وُلدت وعشت بامتداد عمرى مع تقلبات أنظمة انقضت على مسار الوطن، منذ 1952، لتنتزعه من مشوار بناء أسّس له محمد على بقياسات عصره، وخطا فيه الخديوى إسماعيل خطوات مهمة على طريق التحضر، فكان أن انزعجت منه قوى التخلف التقليدية لتعزله وتختطف الوطن إلى مشروعها المفارق لحلم التنوير، وتحاول ثورة 19 أن تصل ما انقطع، لكنها لا تنجح، بعد أن حاصرتها مخالب السياسة وشقتها، وبالتوازى تتشكل جماعة الإخوان المسلمين، بتحالف المستعمر والقوى الرجعية، 1928، وتؤسس لتشكيل قاعدة تنتشر وتتغلغل إلى مفاصل المؤسسات والكيانات المجتمعية وأركان الدولاب الحكومى، ونكتشف أنها وجدت مكاناً فى صفوف ضباط يوليو، بقدر يسمح لها بالتأثير الخفى على مواقع اتخاذ القرار، وتشكيل الذهنية الجمعية للشارع، تعليماً وثقافة وإعلاماً، وعندما تتضارب المصالح وينقلب التحالف إلى عداء، تعود للعمل تحت الأرض، حتى يعطيها السادات قبلة الحياة، لتعيش ربيعها، بامتداد سنوات حكمه، ومع مبارك يتعمق التحالف، والتوغل والسيطرة على مفاصل المجتمع، وتصل الحبكة إلى ذروتها بقفزهم على السلطة بعد ارتباكات المرحلة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير، وتسقط الجماعة ومناصروها وتشعباتها عندما يصطدمون مع الحس الشعبى الذى أصابه الوهن لكنه لم يمت، فانتفض فى «30 يونيو» بقيادة ذراعه القوية، القوات المسلحة.
لم يمت الحس الشعبى الوطنى، ولم يمت حلم الإخوان رغم خفوته، بقيت استراتيجيتهم قائمة لكنهم غيروا تكتيكاتهم، يسعون لبعث حلمهم الأثير، فيعملون على تفكيك تحالف 30 يونيو، عبر الوقيعة بين مكوناته، الشارع والرئيس، الشباب والشرطة، الأقباط والدولة، التشكيك فى خطوات ومشروعات الخروج من كبوة الاقتصاد، تحريك شبكة اللجان الإلكترونية، اختراق الإعلام عبر طوابير المتلونين، وأخيراً الدعوة للمصالحة، وعفا الله عما سلف.
وتأتى الدعوة للمصالحة مع الإخوان، القاطرة التى تقود تشكيلات الإسلام السياسى، تنويعة على حصان طروادة فى أساطير حرب طروادة التى يرويها هوميروس فى الإلياذة، تلك الخدعة الكبرى التى انتهت باحتلال المدينة وسقوطها رغم تحصيناتها.
ما نحتاجه هو تفعيل «العدالة الانتقالية» وهى فى إيجاز تقوم على الكشف عن الحقيقة الكاملة، لبناء وعى جمعى للوقوف على الانتهاكات التى جرت، فى نظامى مبارك والإخوان، بشكل يجعل من الصعب تكرارها مستقبلاً، وهو أمر يستوجب تشكيل لجان «مستقلة» هدفها الأساسى الكشف عن حقيقة ما حدث، وإطلاع المواطنين بشكل ممنهج على الملفات ذات الصلة، بشكل توثيقى.
يليها «المحاكمات» وهى تطال «ما هو سياسى من قبيل الفساد والرشوة وتزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية، وخيانة الوطن»، على أن تكون عادلة وناجزة، يعقبها «التعويض وجبر الضرر» على مستويات متعددة مادياً ومعنوياً ورد الاعتبار قبل وعبر ثورتى «25 و30»، ثم السير فى مسار «الإصلاح المؤسسى» إذ لا يمكن استيفاء متطلبات التحول الديمقراطى دون وجود تصور متكامل وواقعى لإصلاح ثلاث مؤسسات: الأمن والقضاء والإعلام، مع ملاحظة أن الإصلاح لا يعنى هدم تلك المؤسسات ولا يعنى مجرد تغيير الولاءات من السلطة القديمة إلى السلطة الجديدة. ثم تأتى المصالحة، ولهذا حديث مفصل مقبل.
نقلا عن الوطن