أصدر مركز الأهرام للنشر، الترجمة العربية لكتاب «ويلفرد بلنت» عن الأمير عبدالقادر الجزائرى، قدم لهذه الترجمة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، رئيس الجزائر، صدرت الترجمة وتم الاحتفاء بها فى الجزائر والقاهرة، بمناسبة مرور 60 عاماً على انطلاق ثورة التحرير الكبرى، والتى انتهت بتحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسى.
المؤلف إنجليزى، ونحن نعرفه جيداً فى مصر، فقد كان أحد أصدقاء الزعيم أحمد عرابى وموضع سره، وأحد الذين دافعوا عنه بعد هزيمته وفشل مشروعه، وله كتاب مهم فى ذلك بعنوان «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»، تمت ترجمته إلى العربية أكثر من مرة.
الأمير عبدالقادر شخصية عظيمة تستحق أن تُدرس، وضع عنه أحمد أمين فصلاً متميزاً فى كتابه «زعماء الإصلاح فى العالم الإسلامى»، وهناك عدة دراسات حوله، خاصة المرحلة المصرية فى حياته، إذ إنه عاش فى مصر فترة بعد مغادرته الجزائر إثر الاحتلال الفرنسى لها، وكان من المجموعة المحيطة بالأمير حليم، أحد أمراء الأسرة العلوية، ثم رحل إلى سوريا حيث استقر فى حلب، ودُفن بها، وبعد استقلال الجزائر نقلت رفاته من سوريا إلى وطنه الأصلى الجزائر، فى احتفال مهيب.
وفى صغرنا أشارت إليه كتب التاريخ فى المدارس بإيجابية وتقدير شديدين، باعتباره قائد المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسى الذى تم سنة 1830، ظل عبدالقادر يقاوم، وكان فارساً نبيلاً بحق، احترم حقوق الأسرى الفرنسيين بصورة لافتة سبقت معاهدة جنيف، فاستحق احترام وتقدير الأعداء قبل الأصدقاء.
كان الأمير عبدالقادر متصوفاً، وهو من رموز الإسلام الصوفى، الذى أغمط حقه فى العقود الأخيرة، تحت ضغط المتأسلمين الذين اتسموا بالعنف والإرهاب.
إن الضجيج الذى أحدثه دعاة ما أطلقوا عليه «الإسلام الحركى»، أصاب ليس الإسلام المعتدل، الوسطى فقط، لكنه أضر كثيراً الإسلام الصوفى، الذى يعد نقيضاً تاماً لكل ما ينادى به دعاة التشدد والعنف؛ يقوم التصوف على الزهد والترفع والتعفف، وليس بيع الدنيا والدين مقابل كرسى الحكم، ويتأسس على الحب والود، وليس الغل والحقد وكراهية الجميع.
وملامح الإسلام الصوفى تبدو فى تجربة وحياة الأمير عبدالقادر، ويهمنا منها عدة محاور واتجاهات رئيسية تتمثل فى التالى:
أولاً- أن تكون إسلامياً يعنى أن تكون وطنياً، تدافع عن وطنك وتحميه، وترابه يكون مقدساً وجب الدفاع والذود عنه، لا أن نعتبره كما قال سيد قطب «حفنة من تراب عفن»، ولا نخون هذا الوطن، تحت وهم البحث عن الخلافة الكبرى أو العظمى، هكذا كان الأمير عبدالقادر وطنياً بامتياز، وكذلك كان عمر المختار فى ليبيا، وأبوالسعود الجارحى فى القاهرة، زمن السلطان العادل طومان باى، وغيرهم وغيرهم.
إن أسوأ ما فعلته جماعات التشدد والإرهاب أنها جعلت خيانة الوطن جزءًا من فهم الدين، وعلى الأقل وضعوا الوطنية والتدين فى حالة عداء ورفض.
ثانياً- أن تكون إسلامياً، يعنى ألا تؤذى ولا تقتل أحداً، وأن الجهاد يكون للدفاع عن الوطن ضد الغزاة والمحتلين الأجانب، وليس أى شىء آخر، ومن ثم فإن أولئك الذين يقتلون المدنيين والمواطنين الآمنين باسم الجهاد ليسوا مجاهدين فى شىء، هم قتلة ومجرمون من البداية إلى النهاية، وكذلك الذين يعتدون على المؤسسات العامة بالتخريب والتدمير والحرق، هم كذلك مخربون وليسوا مجاهدين.
ثالثاً- أن تكون إنسانياً، تحب الآخرين وتدافع عنهم، كما فعل الأمير عبدالقادر حين أنقذ المسيحيين فى بلاد الشام من مجزرة بدأها بعض المتطرفين والمتشددين، وهبَّ لحمايتهم، إلى حد أن أخذ رجاله وسلاحه وكان مستعداً لأن يقاتل دفاعاً عنهم، وأظن أننا افتقدنا الأمير عبدالقادر وروحه تلك فى الكثير من المواقف والأزمات، آخرها ما جرى فى الموصل قبل أقل من عامين، ومازال يجرى على أيدى الدواعش الإرهابيين.
رابعاً- أن تكون منفتحاً على العصر، متفهماً ظروف الواقع، حدث سنة 1869 أن كانت مصر تعد لافتتاح قناة السويس، فخرج بعض المتشددين رافضين افتتاح القناة رفضاً بالغاً، بدعوى أن ربط البحرين عملاً مخالفاً لإرادة الله سبحانه وتعالى، وتدخل فى مشيئته، ورفض عبدالقادر ذلك التشدد، ودافع عن افتتاح القناة، وحضر الحفل.
تلك بعض ملامح من حياة الأمير عبدالقادر، ومن الإسلام الصوفى، الذى يقوم على الزهد والحب، ومن ثم يكون التسامح، والانفتاح على الآخرين بتواضع ومحبة حقيقية، وليس التأسلم السلطوى والعنيف، القائم على التشدد وكراهية الآخرين، وكراهية الحياة ذاتها، هؤلاء الذين سمموا حياتنا، قتلوا المواطنين وسفكوا الدماء؛ خانوا أوطاننا، وشوهوا ديننا.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع